بعد يوم شاق وطويل في العمل , ركب " منير " سيارته , وكما هي العادة , نسي أن ينتظر شقيقته التي تعمل في مدرسة للتعليم الفني تقع أمام مبنى عمله , وتحركت سيارته مسافة ليست كبيرة , ثم عاد ليجد شقيقته تقف تحت إحدى الشرفات لتستظل بها من لهيب شمس الصيف , ابتسمت شقيقته حين رأته عائداً , فتنفس الصعداء , وخمن بأنها اعتادت الأمر , وأنها لن تغرقه بسبابها المعتاد , وقف بسيارته أمامها , فركبت السيارة , ولا تزال الابتسامة تعلو شفتاها , وما أن أغلقت الباب واستعد " منير " للتحرك , حتى انتفض تحت وابل الصراخ والشتائم التي أمطرته بها شقيقته , لم يطل عجبه , وسرعان ما أدرك أن الابتسامة لم تكن من نصيبه , وإنما كانت مسددة لأحد العاملات معها بالمدرسة والتي كانت تمر أمامها لحظة وصول منير بسيارته , خاب ظنه , واستظل بصمته من أمطار سباب شقيقته .
لم يكن مدخل العمارة التي يسكنها " منير " فخماً , وإنما حاول سكان العمارة أن يجملوها بوضع بعض الورود الصناعية وأشجار البلاستيك , بعد أن فشلت محاولاتهم لتشجير المدخل بزرع حقيقي , حينما أهمله البواب متعمداً لأن الناموس الجاثم على الورود والأزهار والحشرات الزاحفة على التربة الطينية , طالما قضت مضجعه وأقلقت منامه .. فكانت الزروع البلاستيكية الصماء خير مخرج وأفضل الحلول الوسط . تسرع " هبة " شقيقة " منير " بسيرها كعادتها حين يثير " منير " استفزازها بصمته , وتجلجل طقطقة " كعب " حذائها على الرخام الرخيص المهترئ في مدخل العمارة , بينما ترجل " منير " من سيارته ذاهباً إلى " أم دينا " صاحبة حانوت للزينة على ناصية الشارع الموازي لشارع منزله , كان ضرورياً أن يصلح ما أفسدته ذاكرته الحريرية بأن يحضر شئ ما لشقيقته التي تنسى الإساءة في لحظة , مثلما تنسى الإحسان في لحظة .
==================
اجتاز " سامح " الشارع العريض الخالي تقريباً من السيارات , والذي كلما عبره لعن إدارة مدينته التي تهدر كل تلك المساحة العريضة في شارع لا هو بالرئيسي , ولا هو بالعمومي , ولا هو بالفرعي ... واغتاظ كثيراً عندما علم أن 20 % من ميزانية مدينته السنوية تذهب في تشجير ورصف وتعبيد هذا الشارع .. ) أهل هو مقدس .. !!!؟؟؟ ( , يسأل نفسه دوماً نفس السؤال , ويلعن السبب الذي يجبره على عبور هذا الشارع , لقد أجبر أصدقائه على تغيير صالة " البلاي ستيشن " التي أعتادوا الذهاب إليها لأنها كانت تتطلب أن يعبر إليها ذلك الشارع , وقد كان جاداً في مطلبه , وقد وافقوه . إلا أن " الشديد القوي " هو ما جعله يمضي عبر الجحيم , فقد عاد صديقه القديم " محمد " من السفر , واتصل بـ " سامح " ليقابله في " كيكو " وهي صالة البلاي ستيشن التي يعرفها , ولا يعرف سواها , وقبل " سامح " على مضض , وذهب مرغماً لمقابلة صديقه .
في شقة صغيرة أعيد تصميمها لتناسب ملتقىً للشباب من مدمني لعبة البلاي ستيشن تبادل الأصدقاء القدامى أحضاناً ومصافحات حارة مع " محمد " العائد تواً من غربته الطويلة في دول الخليج , وتبادل الأصدقاء النكات والذكريات والمواقف الهالكات , وسط ضحك صاخب , ولم تمر دقائق حتى ذاب الإحساس بالافتراق , وعادت لحظات الوصال كما لو كان غياب السنين سراباً . زف إليهم " محمد " مفاجأة , فقد أخبرهم بقراره الزواج من إحدى العاملات معه بالخارج , مغربية الجنسية , وسوف تصل إلى مصر قريباً ليعقدا قرانهما ثم يعودا لسيناريو الاغتراب المقيت بعيداً عن أوطانهما , وبين مشاعر الفرح قاموا جميعاً لتهنئة صديقهم بالخبر الميمون , وبدوره قام " منير " ليهنئ صديقه , ولم تغب عن شفتيه ابتسامة غريبة الدلالة , غريبة جداً .
انصرف الأصدقاء , وبقي " سامح " و" منير " , الصديقان القديمان قدم السماء , مضى وقت طويل على جلوسهما منفردين .....
منير : ولقيت نفسي هدخل في مشاكل مع التأمين الصحي بسبب دكتور " أدهم " , فقررت إني أعمل النظارة على حسابي في أي عيادة .
سامح : والله أحسن , أنا مش عارف إيه لازمة التأمين الصحي أساساً , وإيه وجه الإجبار فيه.. ؟؟؟؟!!!!
منير : إزاي بأة يا سامح , التأمين الصحي مفيد جداً , يمكن مش ليك , بس لناس تانية مهم جداً
سامح : يعني أنت عايز تقولي إن النظارة اللي هتعملها برة جودتها نفس جودة نظارة التأمين الصحي .. ؟؟؟؟
منير : أكيد لأ
سامح : طيب .
لفت شرود " منير " نظر " سامح " , وأدرك الصديق المخضرم ما يجيش به صدر صديقه , فحرره من عبث السؤال , وأطلق اللحظات تفترس ذكريات " منير " وتعبث بقلبه , ولما انتهى الوقت من اغتصاب خيال منير المنهك , وَجَمَ حين تسمرت عينا سامح في حدقتيه .
منير : ( بتردد ) على فكرة , انا سمعت أخبار مش كويسة
سامح : عن مين .. ؟؟؟؟
منير : ..............................
سامح : ..............................
منير : عن .... عن ......
سامح : ..............................
منير : ( بتردد واضح ) عن .. رانيا
سامح : آآآآآآآآآآه
منير : ( بشغف )إيه اللي حصل ... ؟؟؟؟
سامح : وانت مالك ... ؟؟؟؟؟
منير : ( يضحك ضحكة مصطنعة ) لا بجد .... إيه اللي حصل ... ؟؟؟؟
سامح : بجد انت مالك ... بتسأل ليه .. ؟؟؟
منير : يا جدع عايز اعرف بس , مش عشان حاجة
سامح : أبداً يا سيدي , تعبت شوية وعملت عملية خطير إلى حدٍ ما , بس دلوقتي بقت كويسة ( صمت طويل ) يا منير محدش فاهمك قدي , وكفاياك بقة .
منير : يا بني مفيش حاجة .. أنا بس كنت بتطمن
ساد الصمت أرجاء الغرفة بعد أن انصرف معظم رواد المكان , فقاما , وقررا التسكع قليلاً , وكان بداخل كل منهم أطنان من الكلام , وضن كل منهم على الآخر بكلمة واحدة , وليس هذا غريباً , فقد ضن كل منهم على نفسه بالحديث , أفيواجهون بعضهم البعض ... !!!!
==================
تزوج " سامح " , وأنجب طفلاً , وتزوج معظم أصدقائهم , وها هو " محمد" - عدو الزواج اللدود - يخرج عن كبرياء الرفض , ويمتثل لقانون المرأة , أو قانون الطبيعة , ويقرر الزواج , وقد أدرك " منير " كل هذا , واستوعبه جيداً , وقرر هو أيضاً الزواج , فتقدم لخطبة إحدى قريباته التي أحبته بجنون من قديم . قرأ " منير " المستقبل بوضوح , وتيقن من أن يوماً يقف فيه وحيداً هو قادم ولا ريب , لذلك فقد أسرع بالارتباط , ولم يجد أنسب من " سلوى " إبنة خالته لتصلح له زوجاً .
منير .... شاب في الثلاثين من عمره , صارعته مشاعره فصرعته , حاول الانتقام من حواء , فغازلها , ومارس معها كل فنون الهوى , وأخضعها , ولم تكد تفلت منه لحظة إلا ومثل فيها بمشاعرها , إنه بالطبع لا يدرك كل ذلك , وإلا فإنه سيحجم على الفور عن صراعه مع حواء اللعينة , أهل سيحجم .... ؟؟!!!! لا أعتقد , إنه يمارس لعبته رغماً عنه , لقد تمرس الأمر حتى صار إدماناً , أو بالأحرى أصبح انتهاكه لمشاعر المرأة صنماً أقامه , وعبده ... وكأنه صنع آلة حرب فتاكة دون أن يصنع لها مكابح , فراح هو ضحيتها .
منير .... قادر دوماً على اجتذاب المرأة , أي مرأة , ولكنه لم يتعلم أبداً طريقة إبعادها .. !!!
منير .... على استعداد دائم لبذل المشاعر إرضاءً لغروره ورغبته , ذلك الغرور الذي يَرضى حين يراه بمقلتيه في عيون حواء , وتلك الرغبة في إخماد لهب الحب المتراكم تلالاً جاثمة على صدره .
منير .... فقد الإحساس بالخط الفاصل بين هزل اللهو مع حواء الفتاة وجد الحياة مع حواء الزوجة .
منير .... وجد في الزواج نهاية .. وليست بداية
منير .... توجه لمحراب الزواج مبتهلاً لآلهته أن تمنحه السكينة والهدوء والاستقرار .
منير .... أنهكته المعارك , وخضبت جسده بدموع الملتاعات , ولم يعد منتصراً منتشياً بأكاليل الورود , بل عاد مجللاً بالخزي والفشل , متوجاً بنبراس الشوك يدمى عقله قبل صدره .
منير .... فكر في نفسه فقط حين قرر الزواج , ولم يفكر في الآخر الذي سيشاركه كل شئ , أيقن أنه بمعسول الحديث وحسن المعاشرة وطيب السلوك سيرضي حواء الزوجة , ولكنه لا يعلم أن حواء الزوجة غير حواء الحبيبة
سامح : على فكرة يا منير , إنت ممكن تزيف مشاعرك مع أي حد , وهيصدق , لكن مش ممكن تزيف مشاعرك مع مراتك وتصدقك
منير : ( وقد صدمته ملاحظة سامح التي جاءت بعد صمت طويل تخللته الأفكار ) إإ.. إ ... إنت بتقول إيه .. أنا مش فاهم حاجة ..؟؟؟؟
سامح : لأ .. إنت فاهم أنا أقصد إيه .. أوعي تفتكر إنك تقدر تضحك على مراتك , حتى لو مش بتحبك .. الزوجة عندها حاسة مش موجودة عند أي بنت, بتقدر تعرف جوزها على حقيقته , من جوة , على الأقل بتقدر تعرف مشاعره ناحيتها إيه ... مسكينة ..!!!! ولو اكتشفت إنه مابيحبهاش بتحط جزمة فـ بؤها وحجر على قلبها طول العمر , أصل هتقوله إيه .. ؟؟؟ حبني ..!!!!؟؟؟ , مستحيل , كرامتها أهم عندها من مشاعرها .
منير : ( وكأنه لم يفهم ) أنا مش فاهم انت بتتكلم عن إيه يا سامح .
سامح : أنا متأكد إنك فاهم , وع العموم , إنت محتاج تفهم نفسك , مش تفهمني أنا
=======================
وصل الصديقان إلى مفترق الطريق , فتبادلا العناق , وراح منير في طريقه نحو المنزل , تثقله الذكريات بأكثر ما يثقله الفكر , وراحت الأطياف تمر من حوله , أطياف الابتسامات , والضحكات , والتنهدات , والدمعات , وحلو الكلمات .... ووسط كل الأطياف بدا له طيفان وكأنهم الواقع مجسداً .... طيفان لا يملك منهما فراراً .... لازم الطيفان دوماً قلبه وعقله
طيف سلوى
وطيف رانيا
وتصدح في أذنيه كلمات سامح ينوء تحت ثقلهما
منير , فقد الإحساس بالخط الفاصل بين هزل اللهو مع حواء الفتاة وجد الحياة مع حواء الزوجة , ووجد في الزواج نهاية .. وليست بداية
أحمد عبد الحي شلبي
الإثنين
13 – 9 - 2010