2011-04-24

حاتم

يوم مرهق .. بدأ بفزعة تقليدية تتكرر يومياً على صوت المنبه مروراً بالتعثر في سجادة غرفة النوم وصولاً إلى احتساء كوب الشاي دون سكر , فقد نسيت " هدى " الخادمة أن تشتري التموين في بداية الشهر , وظل اليوم عنيداً إلى أن وصل " حاتم " إلى مصلحة الأحوال المدنية بالعباسية .

          مبنى المصلحة في نظر حاتم هو القدر الأعور الذي لا يرى سوى من منظور واحد ورؤية وحيدة , ويتيقن من ذلك يومياً حين يستمع بملأ أذنيه سباباً وشتائم من جميع الأصناف والألوان , بالطبع من المواطنين المترددين على المصلحة بالمئات يومياً , وليس من الموظفين الذين اعتادوا سماع هذه الشتائم , القدر الأعور الذي يدركه حاتم بجلاء هو تلك المفارقة التي تنبلج أمامه كل دقيقة في حياته ... فهو كموظف في القطاع العام  وفي إحدى المصالح الحكومية القحة يعامله المواطنين نزلاء المصلحة على أنه سبب المتاعب والروتين اللعين الذي يعانون ألمه كلما أوقعت بهم الظروف في مثل هذه المواقف , وبالمثل .. يعامل المواطنين الشرفاء كل زملائه بنفس الطريقة .. على أن الفارق يكمن في اختباء حاتم وراء الجدران , فهو يعمل كمراجع لبيانات المواطنين المتقدمين لتجديد أو استصدار بطاقات الرقم القومي , ويقوم بتحديثها ونقلها إلى الشبكة العامة المتصلة بباقي المصالح الحكومية في القطر المصري , لذلك فهو بمنأى عن الاحتكاك المباشر بالسادة المواطنين , وإن كان سبابهم يشمل موظفي المصلحة جميعاً بدءاً من رئيس المصلحة وصولاً إلى " رضا " الساعي المرتشي , المفارقة هنا أن كل هؤلاء الحانقين الذين يسبون موظفي الحكومة هم في أغلبهم من موظفي الحكومة ... !!!!!

          لا تبدو وظيفة حاتم مرهقة إلى حد ما , إلا أنه يشعر دوماً بأنه لا فارق بينه وبين الحاسب الذي يجلس أمامه , ألتصقت يداه بلوحة المفاتيح والتصقت روحه بذلك القدر الأعور .

          وقف حاتم على طريق صلاح سالم أمام محطة الأتوبيس منتظراً الميكروباص ليقله إلى ميدان العباسية , ويشاء القدر الأعور أن تقع عيناه على طائرة ضخمة وضعت بفناء المبنى المخصص لعرض تفاصيل حرب أكتوبر , والذي يسمى " البانوراما " , وكان القدر أعوراً هنا بحق , فوراء البانوراما التي تخلد ذكرى النصر العظيم والرجال الأقوياء والزمن المهيب يقع مبنى " مركز البولينج الدولي " الذي يتردد عليه شباب مصر الغالية , أبناء وأحفاد أبطال أكتوبر العظام , شباب مصر الذين تتدلى الحلي من أعناقهم ومعاصمهم وتثور شعورهم فتفقد التمييز بين جنسيهم , يدخلون إلى مركز البولينج من طريق محازٍ لسور البانوراما , فتقع أنظارهم على الجندي الذي يرفع سلاحه عالياً فوق أرض سيناء بعيد النصر منحوتاً على جدران المبنى , فتنطلق السخريات والضحكات تطعن الجندي المرسوم على الجدار بذخيرة تؤلم قلبه , لا جسده .. إن حاتم لا يتخيل , لأن ما جال بذاكرته واقع حدث بالفعل , فقد كان حاتم من هؤلاء الشباب الذين يرتادون مركز البولينج , وكثيراً ما أضحك رفقائه من الشباب والفتيات بقفشاته الماكرة حول الحرب والمعدات المبعثرة في فناء البانوراما , وطالما أنهكت نكاته صدر ذلك الجندي المنحزت على جدار المبنى , مضى وقت طويل على تلك الأحداث , لم يدخل حاتم مركز البولينج الدولي منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام , ولا يزال يذكر جيداً المرة الأخيرة التي احتسى بها فنجان القهوة بصحبة ....

 وصل الميكروباص أخيراً  وبدأ اليوم .

          إن شعور موظف الحكومة الذي يتلقى صيحات التذمر من المواطنين هو شعور مؤلم , وكاد حاتم أن يقدم استقالته بعد تعيينه بشهور قليلة لأنه لم يعد يحتمل ألم ومعاناة هؤلاء التعساء الذين ألقت بهم المقادير في أتون الروتين المصري , وعدل عن قراره بعد أن أخمد الأستاذ " صالح " نيرانه المتأججة بجملتان , فبعد ضحك صالح من السبب الذي يقدمه حاتم في استقالته التي عرضها عليه قبل تقديمها لمديره المباشر , قال الأستاذ صالح " هنعملهم إيه بس يا حاتم , ما هما اللي كتير " , وبالفعل , عدل حاتم عن تقديم استقالته وخصوصاً بعد أن ذاق الويلات في رحلة تجديد رخصة سيارته بالشيخ زايد , وأدرك وقتها أن الوباء ليس حكراً على العباسة فقط وإنما قد تعدى المرحلة السادسة ليضرب بسمومه في أرجاء المحروسة .

          إنطلق حاتم في ردهات المبنى متجهاً إلى مكتبه الذي يتقاسمه مع زميلته الآنسة نورهان , كلاهما يعمل بنفس الوظيفة , وبين " السلام عليكم " وبين " صباح الخير " لم تخرج من فمه عبارات غيرها , العجيب في مصر أن كلمات التحية لا تصحبها في العالب أية ابتسامات , على عكس المتعارف عليه في سائر أرجاء الأرض , فإلقاء التحية هو تعبير عن السلام أو الخير  وكلاهما يستلزم بالضرورة وجهاً بشوشاً وملامح ناضرة بالبسمة , أما أن تلقي تحية الخير والسلام بعبوس تلقائي وتجهم لا إرادي فذلك هو القدر الأعور .. ثانية .

          امتطى حاتم صهوة الحاسب  وبدأ بمراجعة البيانات التي وصلت منذ يومين من سجل الأحوال المدنية بمنطقة الهرم , وعلى الرغم من جود مصلحة للأحوال المدنية بشارع الهرم إلا أن الإدارة الرئيسية بالعباسية هي كعبة المراجعات لكل مواطن مصري
" محمد سعيد ابراهيم الميرغني .. 36 على 1198 , ذكر , مسلم , متزوج  حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة ... تمام ... أميرة فتحى كامل نور الدين .. 50 على 613 .. أنثى , مسلمة , متزوجة .. ربة منزل ... تمام أوي .... سعاد بيومي عبد النور ... "
قطعت سلسلة مراجعات حاتم صرخة أنثوية ناعمة من نورهان , التي تروعها دوماً تلك الطريقة التي يعمل بها حاتم , فهو لا يستطيع ان يعمل في صمت , ينطق بكل بيانات البطاقة الظاهرة أمامه على شاشة الحاسب مضاهياً إياها بالبيانات المدونة بالأوراق , وعلى النقيض  تنزعج نورهان من تلك " الدوشة " التي يسببها لها حاتم , فتنهره صبيحة كل يوم , فيقابل غضبها بابتسامة .. ثم لا يلبث أن يعود لمنهجه " التجويدي " في مراجعة البيانات , وتنهره نورهان , وهكذا ,, حتى ينقضي يوم العمل . دخل " عم رضا " بالقهوة , وضعها أمام حاتم وانصرف .

          بلغة الكمبيوتر , يدرك حاتم جيداً أن لحظات العمل هي في الأصل لحظة واحدة , ولكن أخذت منها آلاف النسخ طبق الأصل وألصقت متتابعة لتنعقد في سلسلة طويلة اسمها " وقت العمل " , وبهذا المنطق , لا يمكن أن تجد فارقاً جوهرياً , أو حتى عرضياً بين أول اليوم وآخره . أضف إلى ذلك أن عمل حاتم ليس موسمياً , فمن ذا الذي يستطيع أن يحيا دون اللجوء إلى مصلحة الأحوال المدنية , البطاقة الشخصية الهائلة للمحروسة , فكل أيام العمل مزدحمة , وقلما انتهى يوم عمل دون أن يترك حاتم وراءه أعمالاً مؤجلة للغد , وعلى الرغم من ذلك , لم يشعر حاتم قط بالإرهاق , إنما كان الملل هو الشبح المطل دوماً من جدران المكان .

          الساعة الرابعة عصراً , أوشك اليوم على الانتهاء , دون أن ينظر حاتم للساعة أدرك أن اليوم قارب النهاية , خفوت الضجة المنبعثة من خلف الجدران , وبروز أصوات العاملين وهمهماتهم وضحكاتهم كلها علامات بداية نهاية يوم العمل , ولحاتم وجهة نظر في الوقت الممتد من الساعة الرابعة إلى الساعة الخامسة , ففي كل مرة يخرج فيها من غرفته في تلك الساعة يجد وجوه الموظفين متهللة , منفكة الأسارير , وكأن خيراً عظيماً بانتظارهم .. بالطبع , خيراً عظيماً , إن النجاة من أنياب الروتين القاتل الفوضى المدمرة والصخب الغوغائي لهو بالفعل يوم عيد , وكأن الخامسة من مساء كل يوم هو عيد مبارك , ولكنه عيد خاص أشبه بأعياد الميلاد الشخصية , حيث لا يكترث به سوى صاحبه , لذلك , فلا عجب أن نجد العمل في المصلحة مشرفاً على الموت , بينما العاملين بالمصلحة بصدد ميلاداً جديداً . يبدو أن القدر الأعور لا يكف عن العبث بمقاديرنا .

أحمد عبد الحي شلبي
الأحد
19 – 4 - 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق