2012-03-18

العرش ... الفرصة الأخيرة





بات واقعاً هاجس التحزب الذي تخوفنا منه بعد خلع الرئيس السابق , أطلقت قوى يناير شرارته , وكرسته قوى التيارات الإسلامية ممثلة في الجماعة والتيار السلفي بجانب المجلس العسكري وأبواقه . وظهرت أفكار وسيناريوهات لحل أزمة التفتت إلا أنها باءت جميعاً بالفشل . ذلك لأن طبيعة الطرح نفسه - بعيداً عن محتواه - أغفل وجود عناصر تسعى للهدم , فقد كان الهاجس المرعب الذي يتخوف منه الكثيرون حتى شهر يونيو 2011 هو " فلول " الحزب الوطني ورعاياه , بينما كانت النظرة للمجلس العسكري تتسم بشئ من الثقة حيناً والحذر أحياناً . كذلك أغفلت الأطروحات جميعها عنصر المؤامرة التي حيكت من قبل التيارين الإسلاميين الكبيرين - اللذان أعتبرهما واحداً - وهما حزبي : الحرية والعدالة والنور .
           
            لا نستطيع القول أن انتخابات البرلمان قد باغتتنا توقيتاً ونتيجةً بعد أن أخفقنا في صياغة طرح مناسب يكفل التكاتف والتكتل , وكذلك أخفقنا في مناقشة الأطروحات التي تمت صياغتها ... فلا نلومن إلا أنفسنا ... !!!!

            جاء المجلس العسكري امتداداً نوعياً للحزب الوطني , وجاء البرلمان متسقاً مع إيديولوجية المجلس العسكري , بما ينبئ بأن الدستور سيأتي متوائماً مع الفكرة العامة للحكم في مصر والتي تقضي بـ : 


  • تصفية المحتوى المعنوي لأحداث يناير والتي درج التعارف عليها باسم " الثورة " من خلال الإعلام .
  • تصفية المحتوى المادي للقوى الثورية من خلال بث الإرهاب الفكري والقمعي .
  • خلق رأي عام مضاد يكفل انتشار أوسع للأفكار الرجعية التي يتبناها المجلس العسكري .
  • خلق كيانات سياسية تسعى لتفتيت وحدة الرأي - إن وجد - وتبث فكراً مسمماً بين الطبقات المتوسطة .
  • الحفاظ على بعض السمات الأساسية لنظام الحكم السابق بهدف تعويم فكرة التغيير نفسها وإفقادها رونقها .

وعلى ذلك , فإن الدستور القادم سيصنف آداة أخرى لخدمة الرجعية لينضم إلى المجلس العسكري والحزبين الإسلاميين .

=================

            لم يعد لدينا سوى آلية وحيدة يمكنها إعادة بعض التوازن إلى الساحة السياسية في مصر وهي منصب رئيس الجمهورية . وما من شك في أن انسحاب " البرادعي " من السباق قد سبب بلبلة فكرية لدى الكثيرين الذي راحوا يبحثون عن أقرب الأنساق الفكرية كبديل عن المرشح المنسحب . قدرنا هذا ولا مرد له ... !!!!!!

            وبعد , فإننا مطالبون في هذه المرحلة بطرح جديد وأخير يضمن لنا خلق خط دفاع وحيد وأخير أيضاً عن مطلب التغيير الذي لم يتحقق . لذلك فإن طبيعة المرحلة تفرض علينا أن نتفق على بعض الثوابت , منها :

1 – ضم التيارات والأحزاب السياسية الموجودة حالياً في ثلاثة تكتلات بحد أقصى :
·        تكتل ليبرالي : ويمكن ترشيح حزبي الوفد أو المصريين الأحرار لتمثيله فكرياً .
·        تكتل إسلامي : ويمكن أن يكون حزب الوسط هو الأقرب لتمثيله .
·        تكتل يساري : ويمكن الاعتماد على الحزب الناصري أو الكرامة . ( تعمدت استبعاد حزب " التجمع " ... !!!! )

2 – على كافة القوى الثورية من شباب يناير الانضواء تحت أياً من هذه التكتلات .
3 – يتقدم مرشح واحد فقط لانتخابات للرئاسة عن كل تكتل .
4 – الترشح بهذه الطريقة سيضمن للناخب أولاً فكراً واضحاً يصوت من أجله وليس شخصاً .
5 – لابد أن يقدم الطرح من خلال شخصيات عامة متباينة الروافد تكون فيما بينها كياناً مؤقتاً .

قد نختلف في شكل الطرح وصياغته , إلا أن قناعةً بحتمية الاتفاق الآن .. الآن , كفيلة بأن تدفع عنا عاراً لن يمحى من فوق جباهنا . أقول : إن تفويت الفرصة الأخيرة ستلصق بكل من ساهم في نسج هذه المرحلة بكل ملابساتها عاراً أبدياً لا سبيل إلى الخلاص منه .

===========================


أحمد عبد الحي شلبي

الحلم






لا يوجد أدنى شك في أننا نحيا الآن بقلوب دعامتها الخوف , الخوف من الغد ومن البطش ومن الحرمان والخوف على ذوينا ولقمة عيشنا , وفي ظل سرادق الخوف الهائل الذي نسكنه تجثم على صدورنا أطياف أحلام بالحرية والخلاص والعدل والأمن .. والواضح أننا نتألم بهذه الأحلام , فلا هي تتحقق ولا هي تذهب عنا . لذلك وجدت أنه من الضروري أن نواجه أنفسنا بحقيقة وجودنا , إن وجود الهواء في صدورنا لا يعني بالضرورة أننا أحياء , فكم من الأحياء أمواتاً , وكم ممن واراهم الثرى أخصب وجوداً من هؤلاء الراكضون فوق الأرض .

          السؤال الآن :

ماذا فعلت في سني حياتك يكون فخراً لك بعد اندثارك ...؟؟؟؟

نصحني والدي نصيحة لا يزال صداها في أذني ومغزاها في روحي يترددان , قال لي ذات مرة , ولم أبلغ بعد السابعة من عمري , " لا أريدك أن تكون كمن ولد فعاش فمات " بالطبع لم أقف ساعتها على ما يقصد , ولكنني أدركت بعد ذلك أن بين الميلاد والموت ثوانٍ صماء علينا أن نعيد تصنيعها لتنتج لنا مفردات شخصيتنا وأجزاء هويتنا , وبالعقل نجمع هذه المفردات والأجزاء فنخلق منها المجد .

يظن البعض أنه بذهابه لعمله واجتهاده فيه يكون قد صنع شيئاً , ويظن البعض أنه بزواجه وإنجابه يكون قد أوفى مهمة , ويظن البعض أنه بدراسته وتفوقه العلمي يكون قد حقق إنجازاً , ولكن الحقيقة أن هناك من الأحلام ما يراودنا ويلح علينا ولكننا ندعي الصمم , أدعو الجميع للبحث عن ذلك الجزء في حياتنا , الجزء الحالم في شخصيتنا , أدعوكم للركض وراء قضية أو مبدأ أو حلم أو عقيدة , لنهب جزء من حياتنا لخدمة طموحاتنا التي طالما كبتناها وأصبناها بالشلل , ولا تهابوا عظمة الحلم ,  فكلما كان الحلم عظيماً وكلما كان تحقيقه صعباً كلما زاد الشوق لمناله , وكلما زادت متعة السعي في سبيله .

" مرحى لكل من وهب من عمره جزءاً لإفنائه في لمس جدار الشمس "



أحمد عبد الحي شلبي
الخميس
26 – 11 - 2009

إصلاح .. بعيداً عن السماء




هل كان محمد بن عبد الله  قادراً على تبني أو خلق رؤية إصلاحية قبل اختياره ليكون نبياً ... ؟؟؟؟

أقول نعم

هل سيحالفه النجاح في تفعيل هذه الرؤية على أرض الواقع دون التصريح بقدسية المصدر .. ؟؟؟

أترك الإجابة الآن

==========


النبي محمد لم يعدم وجود مسبق لنسق فكري فكري شبه مكتمل من المبادئ والأسس الإصلاحية , حيث كانت هذه الأسس مختزنة بالفعل في ذهنه وذلك تأسيساً على اشتغاله بالتجارة لفترة طويلة واحتكاكه المباشر بعادات القبائل , كما تأسست هذه المبادئ على تعامله مع سادة قريش وكبرائها إبان فترة رئاسة جده .. وأسباب أخرى كثيرة

إذن فوجود أيديولوجية فكرية عامة للإصلاح أمر يفرض واقعية وجوده , حتى قبل الوحي والرسالة .

وفي هذه النقطة , يتساوى المواطن العربي " محمد بن عبد الله " مع سائر المصلحين قبله وبعده .



===========________________===========

أتذكر ما قرأته يوماً لعبقري الفكر " توفيق الحكيم " , أعتقد في كتابه " تحت شمس الفكر " فيقول أن كل الأجواء في تلك الفترة كانت مهيئة لظهور نبي جديد , وإن كان مكان ظهوره موضع خلاف تبعاً لرؤية المعتقدين وقتها في تلك النبوءة , فأخبر أحبار اليهود وكهنة النصارى بأن ميعاد الظهور قد اقترب , ويرى الحكيم أن ما وقع من معجزات للنبي في صغره وشبابه كان كفيلاً بأن يخلق بداخله استعداداً لا إرادي باحتمالية كونه هو النبي المنتظر , إلى هنا ينتهي حديث الحكيم .

ولما اجتمع هذا الإحساس الدفين بإمكانية اصطفائه كنبي مع رؤيته الإصلاحية المختزنة بداخله من قبل , جعل أمر الإصلاح يبدو هيناً .. على الأقل من الوجهة النظرية ; حيث لم يتبق سوى صبغ تلك الرؤية بصبغة دينية مقدسة تضخم فرصة إيمان العامة بمبادئه الإصلاحية التي اكتملت وتمت صياغتها بنزول القرآن , فأضاف الوحي رؤية إصلاحية أخرى ممثلة في آيات الله وكلماته , وبقى فقط أن تتم عملية المزج , أو بالأحرى , الصهر في كيان جديد فيه التجربة الإنسانية ممثلة في الرسول والأمر الإلهي ممثل في القرآن .. وكان الدين الجديد , الإسلام .

لنفترض سوياً .. ماذا لو تأخر الوحي قليلاً ...؟؟؟ 


هل كان الرسول سيقوم بطرح رؤيته الإصلاحية الإنسانية البحتة , أم ستظل تلك الرؤية سجينة جدران قلبه وفكره إلا أن يتوفاه الله ... ؟؟؟

أعتقد أنه سيجهر بها , فقراءة الواقع العربي في شبه الجزيرة في ذلك الوقت وقبله , والاطلاع على صفحات التاريخ تؤكد وجود بعض المصلحين الذين كان لهم رؤىً ممثلة في اعتراضات وتوجيهات وتوصيات على الواقع العربي وقتها ... 

إذن فالأمر ليس بالبدعة ولا هو بالجديد

خلاصة القول ... إن أي رؤية إصلاحية لا تحتاج إلى دعم خارجي – أياً كان – بقدر ما تحتاج إلى قناعة داخلية وبناء محكم من التصورات , هذا بخلاف شرطيين أساسيين وهما : الوضوح والشمول .

======================

أحمد عبد الحي شلبي
 

وحشي





-    لم يكن الأمر سهلاً يا عزيزي .. إن المرور بين صليل السيوف وصهيل الخيول تماماً كمراوغة الموت ... يدمي غبار الحرب عيناك , وتسقط تحت أقدامك قتلى , تلوث دمائهم صدرك وفخذيك .
-         عانيت إذا ... ؟؟؟؟
-         بل أكرهت ... !!!!

بدت بشرته السمراء كأنها ليل بلا ضحى , تبدو مقلتيه متأرجحتين في بياض عينيه , ذلك البياض الذي يكسر حدة السواد التي ابتلع وجهه , ذلك السواد الذي يراه بعضنا عبر السطور التاريخ حقداً وسوءاً . بشكل أو بآخر , تمكنت من مقابلته , ذلك العبد الأسود الذي طارده ماضيه , وكانت له الذاكرة رمحاً يرتشق دوماً بأفكاره وساعات حياته , رمحاً .. كذلك الذي أدخله التاريخ .  ذاكرته وتاريخه رمحاً دامياً ... لطالما أورثه البغض والكراهية .

-         للسادة منطق حياة , وللعبيد منطق مغاير ... تماماً .

صمت قليلاً ثم أردف :

-    وإذا كان للسادة أحلاماً وأهدافاً ومرامِ وطموحات , تتعقد وتتشعب وتتلاقى , فإن للعبد منا هدفاً واحداً .. أو بالأحرى ... حلماً ... يروم إليه , ويكون مستعداً لأن يهب سني حياته كاملة مقابل أن يحيا يوماً واحداً يستنشق فيه هواءاً آخر غير الذي يتنفسه .

أطلت على وجهه بجلاء ملامح متشابكة , تختلط فيها الحسرة مع الألم مع الأمل مع الوهن , واستطرد مطلقاً زفرة حملت في سخونتها عويل سنين الرق :

-         العتق ..... العتق ...... هو الحياة لأمثالنا .

رمقني بابتسامة , وبدأت أسارير وجهه تنفك رويداً , بدت بقايا أسنانه البيضاء التي غيرت الخمر لونها من خلال شفاه سوداء غليظة لم تخل من بعض التشققات , وتابع :

-         بالطبع لن تشعر أنت بمثل هذه النعمة ....

قاطعته ببعض خشونة :

-         ولا أريد أن أشعر , ولا من أجل ذلك أتيت .... جئت لأعرف منك ماذا فعـ .........
-    ( قاطعني بحدة )أعرف جيداً ماذا تريد , وأعي غرض زيارتك .... ليست هي المرة الأولى .. ولا أظنها ستكون الأخيرة التي أُسأل فيها هذا السؤال .... كلما حطت قدمي في أرض أتوقع زواراً .... أمثالك .... من يثرب إلى الطائف إلى مكة إلى الشام إلى اليمن . ما أن يعلموا بمقدمي حتى يتناوبوا زيارتي , فيسألون نفس السؤال , وأجيب ذات الإجابة . اعتدت السؤال والإجابة .
-         أتمانع إن عرفت منك ... ؟؟؟
-         على الإطلاق , ولكن يمكنك التعرف على ما تريد من كتب السير والتاريخ , فهي ملئى , ومستفيضة ..
-         أعتقد أن الأمر لديك مختلف , ثمة ما يجذبني إليك وإلى سر وراء فعلتك .

طرقت للحظات , وتناوبتني خيالات وأفكار طالما أرقتني , نظرت إليه مباغتاً , متخلصاً من شرودي :

-         أرى أنك تحاول التملص من الإجابة .... أمن أثر جرح يسببه لك تذكر الأمر .... ؟؟؟؟؟
-         إطلاقاً ... ليس ثمة أثر , لأنه لم يكن هناك جرح أصلاً ....

أذهلني ثباته , وجلده وتحمله , وأفزعتني نظرته التي يملؤها السكون والهدوء . لا يمكن أن يكون هذا الرجل هو قاتل حمزة .

راح يزبد ويرغي , يسعل بين الحين والآخر , وتتبدل قسمات وجهه وملامحه , ويروح في نشوة الحكي يهز يده في الهواء محاكياً وقفته في " أُحد " حال تصويب حربته إلى صدر أسد الله . وفجأة , امتقع وجهه كأنما رأى جان , وشرد , وعينيه تائهتان على يساره في عالم آخر , ولما طال شروده وكزته في فخذه النحيل , نقل عينيه نحوي ووجهه على حاله , وقال بنبرة صوت أعيته الذكرى :

-         تذكرت وجه الرسول حين تلوت على مسامعه ما اقترفته بحمزة يوم أحد .

كانت الكلمات تخرج من فمه كالروح الخبيثة تخرج من الجسد الدنس , تابع , وكأنه انتشى بشعور الألم :

-    هو من دعاني إلى ذلك , بل وأصر , أفضت في السرد , كيف ومتى وأين قتلت عمه . لقد كان يصر على أسنانه , وينكمش جلد وجهه , ويغمض عينيه توجعاً , كنت أستشعر الرعدة تسري في جسده طيلة روايتي , حتى إذا انتهيت  , لم يستطع إخفاء امتعاضه وألمه أكثر من ذلك , انتفض صائحاً : ( ويحك ... غيب عني وجهك فلا أرينك ) . وظل الحال بي هكذا .. إمتثلت لأمر الرسول , كنت ألوذ بمخبأ كلما رأيت الرسول قادماً , وكنت أتستر عن عينيه وراء الحجب والآطام , إلى أن قبضه الله .

في طريقي لمرادي , التقطت بداية الخيط , وسارعت بارتداء وجهاً تهكمياً ساخراً أجيد استخدامه :

-         أرجو أن تلتمس له العذر ... فقد قتلت عمه ... !!!!!

يبدو أن لهذا الوجه تأثيراً . إنتفض الرجل , واغتاظ بشدة , وبدت حمرة خفيفة على وجنتيه المبللتين بالعرق , وحاول النهوض في غمرة حنقه , ففشل . نهرني بشدة حتى برزت عروقه من رقبته :

-         ويحك ... أستشعر في حديثك نبرة تهكم على رسول الله , إياك أن يكون ظني صائباً , وإلا ..... , وإلا .....

ظل يتوعدني بسبابة يمناه , محاولاً أن يضفي على وجهه ملامح الغضب والوعيد , إلا أن كلماتي قصمت تهديده :

-    لم يعد لك من الأمر شيئاً يا وحشي , لقد طعنت في السن , وهرمت , وخارت قواك . دعك من وعيدك وغيرتك المصطنعة على الرسول , ألقِ عنك قناع الإسلام يا وحشي . ( بنبرة هادئة ) إنك لم تكن يوماً مسلماً بحق , إنما اعتنقت الإسلام بغية اتقاء شر انتقام الرسول .
-         ( ثائراُ ) كذب .... تقول الكذب أنت لا الحقيقة ....

اختنق صوته , وكاد يجهش بالبكاء . استند على نمرق موشى بزخارف فارسية لا يبدو أنه مهتم بتنظيفها منذ زمن , وجاهد ليقيم عصب قدميه بعد أن أمسك بجذع نخلة مبتور بوسط الخيمة . هو العبد القوي إذاً ذلك الذي يقف أمامي الآن , يجتهد ليخفي انحناءة ظهره , كالثمانينية تحاول عبثاً إخفاء تجاعيد وجنتيها . ابتعد خطوات عني , ثم وقف والتفت إلي , ومن مكانه أرسل كلمات " استمع إلى جيداً " . بدت نظرة الجد في عينيه , وكأنه مقدم على اعتراف , بدأ يتهادي نحوي , لا أدري إن كان بطء خطواته من وهن أم من بخترية :

-    أعلم أن للقدر سخافاته التي لن يتورع أبداً عن معاقرتها , وأدرك جيداً أن التاريخ هو الآداة التي يستخدمها البشر لإيلام بعضهم البعض , وأن من مثلك ما هم سوى لصوص .... للأسرار والذكريات .

بدت مهمتي الآن صعبة , بل شبه مستحيلة , لقد أفرغ الرجل ما في جعبته . وكأنه أفرغ ما بجعبتي أنا أيضاً , بدت نظرته تخترق حجب الذات , لذت بالصمت ... خاصة وقد لمحت في عينيه رغبة في الاستطراد :

-         سأخبرك ما تود سماعه .

أعترف بغبطتي , سأسجل تواً اعترافاً تاريخياً , تهيأت للاستماع وأصخت السمع وأرهفته حتى كدت أستحيل أذناً كبيرة تلتصق بلسانه :

-    يصلكم عبر الوثائق والروايات والشهادات التاريخية ما يروى ظمأكم , ويجعلكم تتيهون فخراً بمجد الآباء وعظمة الأجداد . وتاريخ الإسلام – كما يصلكم – ممتلئ بتلك السير وتينك الروايات التي تزخر بذكر مناقب أصحابها ومحاسنهم , وقد يكون ذلك صواباً . إلا أن ثمة وجهة نظر أخرى , وهي اننا في المقام الأخير بشراً , نتعامل بمنطق الاستثمار في الخطأ والصواب , نرجئ أحكامنا من أجل رغبة , ونعجل قضاءاً بغية دفع مضرة أو جلب منفعة , نرتكن إلى قلوبنا وعاطفتنا في المقام الأول .. وليس العقل .

لم أدرك ما يقصد , حتى أنني لم أستطع معرفة سبب هذا الحديث أو ما يعنيه . فاجأني بسؤال وهو يقترب مني خطوة :

-         هل تدري كيف أسلم حمزة ... ؟؟؟

بدا لي السؤال مغلف بالمكر , ولما لم أستطع فض غشاء خبثه , طفقت أسرد قصة إسلام حمزة وهو يرمقني مبتسماً , ولما انتهيت , أعطى للصمت فرصاً ذهبية لينهش في مخيلتي , بينما هو لا يزال يرمق وجهي , ويهز رأسه مبتسماً بمكر ودهاء ممتزجان بنشوة نصر , بلغ الصمت مبلغاً مهيناً لي , وامتد ليصل بي إلى حد أن انتفضت واقفاً لأواجهه بكلمة واحدة فقط :

-         ثم ..... ؟؟؟؟؟!!!!!!

ووجد من المناسب أن يتابع , خرجت الكلمات من شفتيه ثقيلة , بطيئة , يتعمد نثرها بتأنٍ علّني أتدبر ما ورائها :

-    ما ظنك وقولك في شخص اعتنق ديناً بهذه الطريقة ... ؟؟؟؟!!!!!  ( صمت قليلاً ثم تابع ) أستمحيك عذراً , تحمل ثقلي , وسوء نيتي , ودمامة تساؤلاتي , استفسار آخر ... ( صمت قليلا واستطرد ) ما رأيك في قصة إسلام عمر ... ؟؟؟؟؟ !!!!!

إلى هنا أعتقد أنه حقق انتصاراً , لقد تمكن الرجل بالفعل من جذب قدمي إلى دائرة التأمل , لاحظ شرودي في عالم آخر بينما ناظري معلقان بوجهه بلا حركة . استطرد قائلاً :

-         أتعتقد في منطقية اعتناق رجل للدين بهذا الشكل وبتلك الطريقة وبذلك الأسلوب .... ؟؟؟؟ !!!!

راحت صوراً ومشاهد تخيلية تتبعثر أمامي لفصول مترامية في مسرحية عظيمة اسمها " السيرة " , أو ما وصل إلينا عن سِيَر الصحابة ومناقبهم , لم أستطع وقف حركة هذه الصور التي لم أستطع حتى تبين ما إذا كانت مشوشة أم واضحة .

أثار الرجل بوعيي عواطف من التأملات , وفجر ينابيع الأسئلة من رأسي تكاد كثافتها تحطم عنقي , أعدت - بما تبقى لي من وعي - قراءة بعض المواقف , وجاهدت لتتبع مسار بعض الأحداث , وحين أعيتني المحاولات .. قررت التوقف , ريثما أستريح قليلاً , وأنتهز الفرصة لأسأل الرجل عن مقصده ومبتغاه بعد أ، أغرقني بسيل من التأملات , نظرت في وجه الرجل الأسود , وأدقق في ملامحه , وأصعق حين أفاجأ بأن عيني معلقتان بعمود من الجرانيت ببهو أحد المنازل , وأستفيق على جذب صديقي من يدي لاستكمال مهمة ما .

أين الرجل  ..... ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!                 أين قاتل حمزة ....... ؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!
إختفى ........... ؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!  أم أنني استحضرته خصيصاً من خزانة التاريخ لأقيم معه شكوكاً يدعمني فيها وأرتكن إليه بخصوصها .... ؟؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!

ما كان كان ..... والآن ...... أغارقٌ أنا ...... أم أنني اهتديت ..... ؟؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!


================================

أحمد عبد الحي شلبي
19 - 9 - 2011
19 - 2 - 2012

بروتوكولات حكماء مصريون .... الجزء الثاني


( 1 )

كانت لحظة دخوله البلاتوه معتادة , وقد أخذت طابعاً رتيباً للغاية من العاملين بالمكان , ومن مُخرج البرنامج على وجه الخصوص . لقد تم استدعائه خصيصاً للعمل بالبرنامج لما له من خبرة سابقة في التحفيز والتهييج والإثارة الإعلامية بالبرامج . تقدم " عكاشة " نحو المكتب الزجاجي مباشرة بعد ن ألقى تحيات مملة على العاملين , قابلوها باعتيادية ظاهرة , أغلق هاتفه المحمول أثناء قيام مصففة الشعر بتنميق مظهره من البشرة إلى رابطة العنق . لحظات ويبدأ العرض على الهواء .....

===========================

( 2 )

بمكتب شديد الفخامة , شديد الكآبة , يليق حقاً بحاكم عسكري , جلس الكولونيل على كرسي من الجلد . بدا هادئ المراس منبسط الوجه وهو يتابع " ريم " على شاشة الفضائية المعارضة . دخل " العناني " ليجلس بجواره على الأريكة الضخمة ناظراً بشرود إلى قدم الكرسي المقابل له , وكأنه يخشى النظر إلى الشاشة , وكأنها تعكس ضميره في مرآة الحق. قطع الكولونيل الصمت بنبرة متهالكة , قد يكون عنصر السن .. ربما ... !!!! , :

-          " أطلبلي عكاشة " .

جاء صوت " الدكتور الإعلامي " على الهاتف مفعماً بالنفاق والوجل , وانطلق الكولونيل ساباً وقاذفاً , وحين هدأ روعه قليلاً أغلق الخط .
لم يمض القليل من الوقت حتى حضر " عكاشة " إلى المكتب , الذي لا نعلم مكانه على أرض الوطن , وقف أمام الكولونيل الذي بادر بسؤال :
-    يعني هو الريس كان فاتحهالك ليه يا عكاشة ... ؟؟؟!!!!
-    يا ريس أنا بعمل اللي عليا وزيادة ... وأديك شايف معاليك ... كل يوم والتاني تقطيع في فروتي , وخصوصاً إلى اسمه " باسم " ده ... وانا صورتي بدأت تتهز قدام الناس ومبقيتش قا .....

قاطعه الكولونيل صارخاً بحنق :

-     صورة ايه يا بو صورة .... إنت قرد يا عكاشة .. إنت افتكرت نفسك بني آدم ... !!!! إسمع .... الجماعة بتوع 6 إبريل وبتوع البرادعي والبرادعي نفسه أنا عايزهم غربال مخرم ... إنت سامع ... غور .
-           
خرج مطأطئ الرأس كعادته أمام السلاطين الذي اعتاد تقبيل كفوفهم . 

============================

(  3  )

جاءت نبرة " العناني " مشوبة بالقلق حين همس - كالساسة - في أذن الكولونيل , على الرغم من أن الغرفة لم تكن تحوي سواهما :

-          وبعدين يا ريس ...
-     ما تقلقش يا عناني ... الناس في الشارع لسة بدري على ما تفهم .. ولسة بدري أوي على ما تتحرك , نكون رجعنا كل حاجة زي ما كانت واحسن .. قصدي وأوسخ ... ثم إن السيناريو ماشي زي ما اترسم ... إنت ناسي إن اللي رسمه لجنة من كبار زوار طرة . ... !!!

ضحك الكولونيل , وابتسم " العناني " . دخل " شاهين " مرتدياً بزته العسكرية ممسكاً بهاتفه المحمول ليخبر الكولونيل بأن " سعداً " يريد محادثته .. تناول الهاتف وجاءت نبرات صوته ولهجته متنوعة حسب مقتضى الحديث :

-     أيوة يا سعد .... أنا عارف إنت متصل ليه .... خلاص يا سعد ... قول لبديع الموضوع انتهى ... منصور أنسب واحد ... بتقول إيه .. ؟؟؟ ... يعني إيه قلقان من بتوع النور ... مش دول خلفتكوا ومجايبكوا .... أنا عارف إن نهايتي هتبقى زي نهاية السادات ... إسمع يا سعد ... منصور من موسى مش هتفرق كتير ... وبالنسبة للبرادعي .. أنا قلقان منه وهو برة اللعبة أكتر من وهو جوة ... ولاد الـ ( تيييييييت ) بتوع الإعلام المعارض هيعملوه بطل وثوري تاني .. تاني يا سعد .... وولاد التلاتين ( تيييييييت ) اللي عملناهم لينا أبواق أخيب من الخيابة .. والجرنان بتاعكوا زي قلته ... حتى الجرايد بتاعتنا مابقيتش زي الأول .... وع العموم ... أفتكر بعد موضوع سميرة وبراءة ظباط الاقسام تتأكد إن الناس مالهاش قومة تاني ...

========================

( 4 )

في إحدى عربات المترو ينهال الركاب سباً على شاب ثلاثيني يضع ضمادة على عينه اليسرى وهو يجاهد في رفع صوته ليسمعه العبيد .. ركاب المترو

========================


أحمد عبد الحي شلبي
11 - 3 - 2012  

                                                    أبــــــــــــــــــي
 ============

إذن , فقد تقدم بك العمر كثيراً , حتى رأيت أخاديداً تنبجس من وجنتيك ورقبتك , ازدادت البقع البنية على ظهر كفيك , واختفت الشعيرات التي كانت تملأ ذراعك والتي كنت أتسلى بنزعها وأتلهى بتأوهاتك الباسمة , خف كثيراً ذلك الشعر الأبيض الملتف حول دماغك تاركاً بقعة جلدية لامعة في وسط الرأس , غارت مقلتيك للداخل وبدت عينيك وكأنهما سقطتا في مستنقع من التجاعيد . ازداد الانحناء كثيراً , ونحل الجسد المكتنز , ولكن الوجه لا يزال منتفخاً وكأنه يأبى الاستسلام لتطورات العمر . تغير الكثير بهيئتك , ولا تزال ابتسامتك رسالة إلهية يحملها نبي يبشر ويكرز , وفي أغوار عينيك أستطيع تلمس الطريق إلى الأمل . تغيرت كثيراً , ولكن لا يمكن أن ينسى المرء منا هيئة والده ... أبي , تجلس أمامي الآن , وبعد انسحابك هادئاً من جوار الأحياء منذ ثمانية أعوام .

          بغرفة نومي , اتكأت بمرفقي الأيسر على الوسادة الوثيرة , وامتد بصري إلى الكرسي الصغير أمام المرآة . كان الشخص الجالس هو أبي , رحمه الله . وإذ لم ينتابني رعباً فقد رحت أبتسم له , وطردت من خاطري إلحاحاً باطنياً على النهوض والذهاب إليه لتقبيل رأسه أو حتى لربت كتفه . لقد افتقدته كثيراً , ولكن أعلم أن الجالس على الكرسي خيالاً وطيفاً , لا أكثر من ذلك , بأي شكل من الأشكال . اكتفيت بمجاراة خيالي المريض , مستمتعاً بمحياه الغائب عن ناظري لوقت طويل , وتعجبت كثيراً لتلك التغييرات الطارئة على وجهه وجسده , لم يكن كذلك حين رأيته آخر مرة ... لماذا تبديت لي في هذه الصورة ... وليست الصورة الأخيرة التي كانت بالطبع أفضل من تلك الحالية ... ؟؟؟؟

          -  قد يكون هذا هو شكلي الحالي

          سمعت صوتاً للتو , لم يكن مرضاً أصاب سمعي كالذي أصاب خيالي . أعلم أن موجات صوتية ارتطمت بطبلة أذني الآن , لم أجن ..... ولن تنكر مسامعي مهما طال المغيب صوت والدي الممتلئ بالمرح , بالضبط كعيني التي لا أشك الآن أنهما رأتاه ينهض ويسير الهوينى نحو زجاج النافذة ناظراً بابتسامة عين وشفاه نحو السماء الزرقاء .

-    تتعجب كثيراً , كما هي عادتك , من هيئتي .. وأجبتك بأنها قد تكون تلك هي هيئتي الحالية لو أنني لا زلت أحيا ... أليس ذلك منطقياً ... ؟؟؟؟

اعتدلت في جلستي , في حضرة والدي لا يصح أن أتكئ بهذا الوضع , وانتصبت في وقفتي , مبعداً عن رأسي فكرة الذهاب إليه , أو حتى السير نحوه والاقتراب منه , واكتفيت بالنظر إليه ... ثارت في روحي ملايين الأحاسيس , حتى أكاد أفشل في التعرف على أحدها منفرداً , فقررت التركيز في اللقاء المفاجئ , الذي يبدو أنه قد تم في غفلة من الزمن وخالقه . تراخى جسدي قليلاً , فأسندت كتفي إلى الجدار الذي يفصله عن السرير مسافة نصف متر , مشكلاً ممراً قصيراً يرتشق في وسطه جسدي الحقيقي , أو كذلك يبدو لي , بينما تنفلت من كل ثقوب هذا الجسد قطرات روحي , تتساقط على أرضية الغرفة الرخامية فتتجمع في خيوط , تتضخم فتصبح أنهاراً تصب أخيراً عند قدمي الجسد الآخر في الغرفة , الجسد الغير حقيقي , أو كذلك يبدو لي .

-         إذن فأنت أبي , جميل , جميل جداً .
-         إذا كنت قد حضرت في وقت غير مناسب , فبإمكانك أن تذهب أنت . أما أنا فلن أبرح الغرفة حتى أنتهي
-         مم .؟
-         مما أتيت من أجله .
-         وما هو .. ؟؟
-         قد لا يهم الآن ... كيف حالك .. ؟؟؟
-         بخير .. طالما أنت تشعر بالراحة .
-         لا تقرن نفسك بي , لحياتي الآن مفاهيمها الخاصة التي لا تنطبق على أمثالك . أطال الله عمرك .
-         كما أطال عمرك .
-         وعلى الرغم من ذلك , غادرت الدنيا وكأنني لم ألبث بها لحظات .
-         أنهيت ما جئت من أجله , سنن الله في الخلق .
-         ولكن الإنسان يهتك سنن الله .
-         كما فعلت أنت .. ؟؟!!!!
-         وكما فعلت أنت أيضاً .
-         لا داعي لنبش الماضي , كفانا الاطمئنان على أحوال بعضنا الآخر .

صوت زقزقة العصفور المحبوس في قفص أرجواني معلق بالخارج على جدار الشرفة , صوت فحيح أوراق الشجر السميكة وصوت اصطدامها بزجاج النافذة , صوت أنفاسي اللاهثة , وصوت نبضات قلبي . تحرك جسده بلا صوت والتفت نحوي لتلتقي أعيننا في صراع تغلفه الوحشة والاغتراب . يقترب خطوتين , ولا أجرؤ على الاقتراب أو الابتعاد . نظرات متلاحقة , التهمت عيناه وجنتي وشعري وعيناي وشفتاي وأزاحت بشعاعها الأثيري تلك الملابس التي تستر جسدي فتفحصتها حتى ارتوت . عاد لجلسته السابقة على الكرسي الصغير , وعلى الرغم من أن ظهره كان ملاصقاً تقريباً للمرآة فإنني لم أجد صورته المنعكسة على تلك المرآة ... كان الكرسي شاغراً .

-         استأت كثيراً عندما علمت أنك أبيت حضور إجراءات الغسل والدفن .
-         لك الحق .
-         أكنت تخشى المنظر .. ؟؟؟؟
-         أهاب الموت منذ طفولتي , وأرتعد خوفاً من النهاية
-         لم أكن أعلم .
-         ومنذ متى وأنت تعلم شيئاً .

كان الحوار ملتهباً , لا يليق بأب وولده , كما لا يليق بكيانين على حافتي الوجود .

-    لقد قررت أنت بنفسك أن تكمل حياتك مع والدتك , ولم أجبرك على ذلك , بل إني طلبت منك أن أتكفل بك بشكل كامل , فأبيت .
-    أعيش برفقتك وزوجتك الحنون , عرض ممتاز , ولكن إصرارك على هجرتي والدتي تماماً حطم سخاء العرض . ألا ترى ذلك .. ؟؟؟؟
-         أردت أن أصنع منك رجلاً , أن يربيك رجلاً خير من تربيك امرأة .
-    لو كان الأمر كذلك لكانت سنة الله في خلقه أن يتزوج الرجال بعضهم البعض . وعلى الرغم من ذلك , فقد راجعت نفسك قبل وفاتك بسنين قليلة , وراجعت نفسي كذلك , وعادت بعض قطرات الدماء لتبلل بعض العروق ضاربة شكلاً باهتاً من أشكال الحياة على علاقتنا الغريبة , وعدت لزيارتك بين الحين والآخر . أعتقد أنك كنت سعيداً بذلك .
-         ولكنك أنت لم تكن سعيداً .

أتجنب الصدمات دوماً , وأخشى أن تجرح كلماتي مشاعر الأشخاص , ولكن أبي - والحال هكذا - ليس شخصاً , كما أن الموقف يملي الصراحة أكثر ما يملي التصرف بلباقة .

-    لقد ابتعدت عني , أو ابتعدت عنك , طيلة فترة حساسة للغاية في تشكيل وعي الإنسان . تلك الفترة التي تتبلور فيها المعاني والمفاهيم التي تصوغ مستقبلاً الخطوط العامة لشخصية الفرد ....
-         تتحدث مثل عمك .
-         ولما كان أبي في تلك الفترة لا وجود له فقد ثبت لدي عدمك من حياتي وإحساسي . أرجو ألا تغضب
-         لا غضب .
-    لذلك فقد كانت زياراتي لك في الآونة الأخيرة سببها إرضائك , فقط , بعد نصائح والدتي وإخوتي وأخوالي ... أرجو أن تسامحني لصراحتي .
-         سيأتي اليوم الذي تتصرف فيه بشكل يذكرك بما فعلته أنا معك .

قال عبارته الأخيرة باسماً , ولم أدرك مقصده , إلا أني تابعت ...

-    أتعلم يا أبي ... لقد أخطأت في حقك كثيراً . ولكنك ستلتمس العذر لي . لقد كانت طفولتي غريبة , حقاً . ينشأ الإنسان بين أبوين في بيت واحد , وقد نشأت في بيتين . لكل منا أم واحدة , وقد وهبني الله إثنتين . أتعرف يا أبي خطورة أن يكون للإنسان في طفولته منهلين ... ؟؟؟؟  بالضبط كجندي يرتدي زياً مخالفاً لزي أقرانه وأعدائه , ولكنه مزيج بينهم , فلا يدري إن كان عدواً أم صديقاً ... !!!
-         ولكنك الآن رجلاً سوياً .
-         لا يجوز لي أن أحاسبك على قرارك بالانفصال عن والدتي , قد يكون قراراً صائباً .
-         جميل أنك تلتمس الأعذار .
-         لقد تميزت بعنادك الوفير , الذي ورثته عنك .
-         للعناد مزايا .
-         أعلم . ولكني أفتقدك الآن كثيراً .

شعرت ببوادر انهيار , بدأ الصدع من الداخل إلى الخارج , وأحسست بأن أصابعي الصغيرة العابثة بشعيرات يده قد بُعثت من عصور موغلة في الظلام . وفشلت في إخفاء تلك الرغبة في احتضانه . خطوة واحدة للأمام , أصبحت يداه في متناول كفي . أمد يدي لأتصل بعالم آخر لا أبغي منه سوى رشفة رحيق تعينني على احتمال المجهول , أو تحيلني رماداً . تصلب الجسد الجالس أمامي , أحسست أنه مات ثانيةً , جثوت على ركبتي أمامه , مسافة ضئيلة تفصل الوجهين , ودهوراً أيضاً . لمحت في الحدقتين الغائرتين صورتي المنعكسة , كانت واضحة بالرغم من ضآلتها , وتبينت ملامحي , ملامح جديدة , شعرٌ أشعث , لحية طويلة وابتسامه عريضة , نور يغشى الجلد الأبيض بين خصلات الشعر المتهدل واللحية الكثة المنمقة , وكانت نظارتي الذهبية الرقيقة قد استبدلت بنظارة والدي السوداء السميكة . تلك كانت صورتي التي نقشت في قلبي بأحبار الفراعنة الأبدية . وهممت أخيراً بتنفيذ رغبتي الملحة , وأقلع كف يدي الأيمن من مطار السكون المطلق لكي يحاول الهبوط بين غابات الشعر الكثيف الذي رآه خيالي ولم يكن موجوداً , وفي الهواء علقت يدي , ولمحت بطرف عيني اليسرى انفراجة صغيرة بباب الغرفة , أخذت تتسع وجيوش النور تتسلل أحياناً وتندفع أحياناً مع اتساع الزاوية . وبدا من خلف الباب ولدي الصغير الذي يستطيع بالكاد الإمساك بمقبض باب الغرفة ليفتحه وينير ظلمة الغرفة وحياتي . دون أن ينبس بكلمة من كلماته الطفولية , جلس أمامي على الكرسي , وتناول يدي العالقة في الهواء بكفه الصغير ووضعها على رسغه الممتلئ لحماً ونوراً , والناعم كوبر الخوخة . أسلمت روحي لعينيه , وانكشفت في حدقتيه صورتي . ولكنها صورتي الحالية التي أعرفها جيداً .

                                                                             أحمد عبد الحي شلبي

                                                                               8 – 1 – 

2011