فوق رقعة شطرنج
** المنظر الأول **
( بعد أن صف الرجل وزوجته قطع الجيوش الخشبية على طاولة الشطرنج , قاما لأمرٍ ما .. وسمع صوت صهيل الخيول وزئير الفرسان والجنود آتٍ من أسفل .. حيث يتحدث جندي من جنود الجيش الأبيض لجندي آخر.. من فوق طاولة الشطرنج .... )
الجندي الأول : " هامساً " يبدو أنها ليست معركة ككل المعارك , لقد ترك الملك زوجته الملكة في القصر وخرج بدونها , على غير العادة , يبدو أن الأمر يحوي شيئاً غريباً ...!!!
الجندي الآخر : لا تشغل بالك بهذه الأمور , فما نحن إلا جنوداً نوضع في الأماكن التي يرى قوادنا , ونضرب من يرى قوادنا , ونتقهقر وقتما يشاء قوادنا , ونأكل عندما يجوع قوادنا , فمالنا ومال حياة قوادنا وزوجات قوادنا ..!!!!!
الجندي الأول : " محتداً " أيها الغبي ..!!! ستظل دوماً جندي ذليل تتحرك عندما يريد قوادك .. ولن تكون أبداً قائداً يتحدث عنك جنودك مثلما تتحدث أنت عن قوادك , ولن ترتقي درجاً واحداً طالما انحشرت رأسك بين تلك الأفكار السوداء الكسولة المتشائمة , إن قوادك الذين تعتبرهم في كوكب آخر يعيشون لم يولدوا على رؤوسهم التيجان , بل حتى لو كان الأمر كذلك .. فإن التيجان على الأقل لم تكن حكراً عليهم , إن هذه الجملة فقط كفيلة بأن تعمق الأمل في نفوسنا, وألا تجلب علينا عواصف اليأس تفتك بأحلامنا , أليس لديك أحلام أيها الجندي ...!!؟؟؟
الجندي الآخر : " بنبرة حزن " بالطبع .. هل خلق حتى الآن من هو خلوٌ من الأحلام ...!!! لقد كان لدي حلم منذ طفولتي بأن أكون فيلسوفاً , مفكراً , لا تكف تروس عقله عن الدوران , وينصر بقلمه وكلماته الحق متى وأينما وجد .. وقد استعديت لذلك بالفعل .. فعكفت على القراءات الفلسفية لأعلام الفكر , إلا أن جاءني دور التجنيد وقامت الحروب العظيمة والمعارك الطاحنة بيننا وبين الجيش الأسود , وضاعت أحلامي تحت ضربات السيوف , وتبخرت أفكاري أمام الأوامر العسكرية , فأصيبت نفسي بخيبة أمل ويأس دائم لا فكاك منه , فتراني أشكو كلما تذكرته , وألعن كل ما يجول بخاطري .
الجندي الأول : ولكن هذا ليس سبباً لأن ترتمي كجثة في أحضان اليأس " وابتسم " أم انك تقمصت زرادشت حين قال ( كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران علموه على الأقل أن يسرع بالسقوط ) .. إنك يا عزيزي لا زلت تحيا , وما دامت أنفك تأخذ من هواء الأرض وتعطيها فالأولى أن يأخذ قلبك من آمال الأرض ويعطيها .
الجندي الآخر : لا أرى شائبة خطأ في حديثك , ولكنني لم أولد لعشق السيوف وغزل الرماح , لم أخلق لأزهق أرواحاً وأمتطي جياداً وأصيح بصرخات تزلزل الأرض أمام الأعداء " مستفهماً " أتراني كذلك يا زميلي العزيز ..؟؟؟؟
الجندي الأول : " بصوت يملؤه الشفقة " لا والله يا مسكين .. إنني لا أراك غير منعزل , ارتسمت على شفتاك حروفاً مكتومة , ظننتها الآمال ولكنها في الحقيقة خيبة الآمال , أراك متفكراً , متأملاً , فأظنك شارعاً في خلق نوع جديد من الحياة ... ولكن الحقيقة أن بداخلك معاول اليأس تنسف الحياة من جذورها " بنبرة حماسة " .. ولكن .. ألا ترى أنه قد آن الأوان لترتدي ذلك الزي الذى خلعته عنك منذ سنوات ..؟؟؟؟
الجندي الآخر : " بتعجب " ماذا تقصد ...؟؟؟؟!!!
الجندي الأول : ما بالك تخاف العودة لما كنت " مراجعاً نفسه " أو لما كنت تود أن تكون , أترى في حروبنا هذي مفادة لنا ولبلادنا ..؟؟؟؟
الجندي الآخر : بالطبع لا ... إنها غريزة حب التملك والسيطرة التي اجتاحت قلوب وعقول ملوك وقواد الجيشين , والتي بدأت شرارتها عندما طالب رجل مسكين فقير على حدود المملكتين بحقه في قطعة الأرض المسلوبة منه عندما تم ترسيم الحدود فشطرت بيته إلى نصفين , نصف في مملكة الجنوب .. مملكة النوبة ونصف آخر في مملكة الدلتا , مملكة الشمال .. مملكتنا .. فأعلن ملوك النوبة الحرب , متذرعين ببيت هذا الرجل , في الوقت الذي أعد فيه ملوك الدلتا عدتهم لغزو مملكة الجنوب متذرعين بذات الذريعة , وبقي الحال في المملكتين حروباً قائمة ما يزيد عن سبعة أعوام , تزهق فيها الأرواح , وتولول فيها النساء , وتثكل فيها الأمهات , ويشرد فيها الشيوخ والعجائز بلا عائل .. ترى من ذلك الذي يسكن في صدره قلباً ويرضى بهذه المأساة ...؟؟!!!!!
الجندي الأول : " بنفس لهجة الحماسة " إذن .. فقد حان الوقت لكي نصحح فيها الأوضاع سوياً , ونقطع عويل النساء , ونرعى الأيتام في كلا المملكتين , ونحفظ للأرض فلاحيها و وخيرها .. تلك الأرض التي جادت علينا بالسلام دوماً , فرويناها بالدماء جزاءاً لها .. الأرض أمنا يا عزيزي .. أرض مصر ...
الجندي الثاني : " بتعجب بالغ ودهشة عظيمة " أرض مصر ...!!!! أتقصد الأرض موحدة .. أرض المملكتين ...!!!!
الجندي الأول : " بحماسة " نعم ... ألم أخبرك من قبل عن هؤلاء المتمردين , الذين ارتهنت حياتهم بتحرير تلك الأرض من حكامها , وإنقاذها من هذا الوضع المخجل الذي نحياه .. إنهم مواطنون صالحون , مثلي ومثلك , تطرحهم الأرض كما كانت تطرح ثمارها وقت السلام , يئنون تحت نير العار الذي يتوج هاماتنا جميعاً في مملكة الدلتا ومملكة النوبة .. ويجمعهم ذات الهدف وذات الأمل .
الجندي الآخر : أؤيدك .. ولكن كيف لنا بنيل الهدف وتحقيق الأمل ... أنت تعلم أنني لا أتردد في نشر السلام والخير في ربوع البلاد ... ولكن كيف .. كيف ...؟؟؟؟
الجندي الأول : دعني أخبرك ... " ويأخذه جانباً ويبدءا الحديث " .
** المنظر الثاني **
( الملك والوزير في الجيش الأبيض يمشيان فوق رقعة الشطرنج وحولهما الجنود و الخيول والفيلة يتدربون , و قد غرق كلاهما في مناقشة عميقة ....)
الملك : ألا ترى أنها مغامرة , وقد تكون غير مأمونة العواقب .. خاصة وقد كشفنا مؤخراً الكثير من الخلايا المناهضة لنظامي ... والتي تحاول التمرد على حكمي ..؟؟؟؟
الوزير : مولاي .. لا أدري إن كان حقاً هناك شكاً يحوم حول اقتراحي هذا أم لا .. وإنما كل ما أرى هو ريبة تصدر من ملكنا الجسور في صدق ولاء وزيره المخلص ..!!!!!
الملك : أبداً يا وزيري .. وهل لي سبيل إلى ذلك وانا أكثر العالمين بأنه لولاك لما بلغنا تلك المرحلة من المجد والسلطة , والسيطرة ... ولكن كل مخاوفي باعثها خطر المتمردين أو تخاذل الجنود حين نشرع في تنفيذ الخطة ...!!!!
الوزير : لا خوف يا مولاي ... لا خوف .. لقد تدبرت أموري بهذا الشأن , وزرعت عيوناً وآذاناً لي في كل حبة رمل فوق تلك الرقعة " بنبرة فخر ودهاء " وأعلم جيداً من المخلص .. ومن الخائن ...!!!!
الملك : " يضحك ضحكة يملؤها الخبث " في كل لحظة أتيقن من أنني لم أفشل في اختياري لك وزيراً ... أيها الوزير الداهية ...!!!!
الوزير : تعلم يا مولاي أن ما يحركني هو ولائي لك , وإخلاصي لأرض الدلتا .. وأهلها " يغير نبرة صوته الهادئة ويتحدث بحماسة الفارس الجسور " والآن .. أود أن أعرف ملاحظاتك حول ما اقترحته لجلالتك .
الملك : أعتقد أنك أحكمت وضع الخطة التي سنختتم بها سجل انتصاراتنا في بلاد النوبة , فبعد أن وصلنا إلى أسوان لم يتبق لنا سوى القليل لنقض على تلك المملكة الواهنة .. ولكن .. أخشى ما أخشاه هو أن نلقي بكل جنودنا وعدتنا وعتادنا في وطيس معركة واحدة , حتى أننا لن نترك لقلعة الجبل وعاصمة الحكم سوى حامية بسيطة لا تقوى حتى على دفع ثورة قليل من المتمردين الغوغاء ..!!!!
الوزير : مولاي .. لقد قلت منذ لحظات إنها المعركة الأخيرة في سجل انتصاراتنا .. أوَ يضن ملكنا على تلك المعركة الحاسمة بهذا العدد من الجنود الذين سيجلبون لنا نصراً أخيراً .. هذا النصر الذي سيرفع اسم ملك الدلتا إلى لقب .. ملك مصر .....!!!!!
الملك : " وقد راح في شرود زهو اللقب , وأخذ يتمتم بصوت كالهمس " ملك مصر .. ملك مصر .. نعم , نعم .. لا أبخل على هذا اللقب " ويفيق " أأ .. أ .. أقصد .. هذا النصر... " بلهجة حماسية " إذن .. فلتتحرك الجيوش .. إلى النصر يا عزيزي ...!!!
الوزير : " بدهاء " إلى النصر يا مليكي ...!!!!
** المنظر الثالث **
( في الجانب الآخر من الرقعة يقف الجيش الأسود متراصاً , وفي الأمام وقف الملك والوزير يتحدثان ....)
الملك : " وقد بدا عليه التوتر والقلق القاتلان " ما العمل إذن يا وزير ... !!!! لقد بدأ العد التنازلي ... والمملكة .. المملكة إلى زوال يا وزير ... إلى زوال ..!!!!
الوزير : هون عليك يا ملك النوبة .. هون عليك ..!!!
الملك : " بحسرة " ملك ..!!! أي ملك ..!!! ما عاد هناك ملك ... وما عادت هناك سوى نوبة اليأس التي فتكت بنا , وامتطت جواد الموت لتعصف بكل ما بنيناه ..!!!
الوزير : ما زال هناك أمل يا مولاي ... لقد علمتنا الصبر والاستبسال حتى النفس الأخير .. ولا زلنا قبل هذا النفس!!
الملك : بل لقد أوشك هذا النفس على الصعود من صدري ... ماذا بقي لنا من مُلك يا وزير " بصوت يخالجه البكاء والغيظ " هه .. ماذا بقي لنا ..؟؟!!!! " يأتي جندي "
الجندي : " مخاطباً الوزير " أيها القائد .. لقد تم القبض على خلية من المتمردين , وقد أودعناهم سجن الحرب بأقصى الجنوب .. " يشير إليه الوزير بالانصراف و يطرق في حزن وقلق ووجهه يكسوه الهم "
الملك : " وقد ازداد غيظه " هلم .. هلم يا كوارث .. أهذا وقت التمرد .. أنواجه الداخل المتمرد .. أم الخارج الغازي ... ؟؟!!!!!
الوزير : " يحاول تهدئة الملك " رفقاً يا مولاي ..!!!!
الملك : " يصيح صيحة يتحشرج بها صوته " أي رفق .. أي رفق يا وزير .. لقد انهرنا تحت أعمدة المعابد " تتقدم الملكة ممتطية جواداً يحيط بها مجموعة من الحرس فتقف أمام الملك وتترجل عن الجواد وينصرف الحرس "
الوزير : لقد حضرتِ في أنسب حين يا مولاتي .. هوني على مليكنا أمره .. فلقد قطع معه اليأس أشواطاً " ينحني مستأذناً بالذهاب ويتقهقر بظهره " سأذهب لأتفقد الجيش .
الملك : أرأيتي يا مليكتي ما يحدث .. لقد أصبحنا وهماً .. أصبحنا ذكرى تطوف بالعقول .. ياللمصيبة , ياللمصيبة ..!!!
الملكة : " بنبرة شفقة تشوبها الشماتة " تجلد أيها الملك .. فإنك لا زلت ملكاً ...!!!
الملك : " وقد راعه ما سمع وحملق بعينيه في وجه الملكة " أو متأكدة أنت من أن هذا اللقب سيزول عني ... أجلاً أم عاجلاً ..؟؟!!!!
الملكة : لست أنا ... إنما هو ولدك ...!!!
الملك : " في تعجب ودهشة " ولدي ....!!!!!
الملكة : لقد أعد عدة كبيرة من المتمردين في البلاد والقرى , وجهز جيشاً كبيراً واحتل به جنوب المملكة , وعرض علي أن أنضم إلى صفوفه ....
الملك : " نظر إليها نظرة ارتياب ولم ينبس بكلمة "
الملكة : " تبتسم ابتسامة ذات مغزى وكأنها تعتصر كمداً " لا تقلق يا عزيزي .. لقد أبيت , وجئت لأخبرك ..
الملك : وكيف علمتِ بكل ذلك ..؟؟؟
الملكة : أرسل لي ولدك رسالة أخبرني فيها بكل ما حدث " تصمت قليلاً وتتابع " وأرسل إليك أيضاً .. رسالة .. " وتناوله الرسالة , فيأخذها ويفضها ويشرع في قراءتها وقد كست وجهه صفرة الرمال , بينما تتابع الملكة كلامها وهي تحاول منع الدموع من أن تنهمر من عينيها " إنه غرورك أيها الملك .. إنه كبريائك , عنادك , حبك للسيطرة والتملك , إنه الظلم والجور ... لقد أضاع كل هذا ملكك .. وأضاع ولدي ... ولدي ... " وتجهش بالبكاء , ويسود الصمت لوقت ليس بكثير , حتى فرغ الملك من قراءته للرسالة . هوت يديه بجانبه فلا يقوى على رفعهما , بينما تحاول الملكة التجلد ومتابعة الحديث " كم من مرة حاول فيها ابنك أن يقوم سلوكك , أن يحملك على التحلي بالعدل لتنال محبة شعبك ...!!!! كم من الأصوات ارتفعت باكية تحت أقدامك تستحثك على كف حلقات الرعب المتصلة , وويلات الظلم المتتالية ...!!! ولكنك كنت أغلظ القلوب على وجه الأرض , فلا ترق ولا تحنو ... والآن .. فقد هويت أيها الملك .. وتفتت أحلامك تحت صيحات المتمردين والغزاة .. ومع كل هذا " تتغير لهجتها لتنبئ بعطف وحنو بالغان " سأظل معك , لا لإنني زوجتك التي رأت معك كل ألوان الأيام والليالي , ولكن لإنني أحبك , سأحيا معك ملكةً أو أمة ... أو حتى أموت ... أرأيت يا عزيزي .. إنه الحب الذي سيبقيني بجانبك .. الحب ... لو كان شعبك أحبك لما تركك .. بل لكان صبر معك وآزرك , وخرج بك من الأزمات ... ولكن من يزرع كرهاً لا يحصد سوى ثماره ... " تذهب الملكة وتختفي , ويحاول الملك بصعوبة أن يفض الرسالة ليقرأها ثانية بصوت متهدج ...
" أبي العزيز / ملك النوبة ...
هذا أنا .. إبنك البار المخلص , الذي حاول مراراً إنقاذك من نفسك , نفسك التي طالما صدتني وأسكتتني وهزمتني , لتتحدث هي بحديثها المعسول فتملأ الدنيا أمام ناظريك بزهو المجد والشهرة والسلطة , وأنت كالمسحور تلبي ندائها فتلقي بأبناء شعبك الذي آمنك على أرواحه في أوج نيران المعارك , ولا تهتم سوى بالانتصار , ولا تهتم سوى بأحلام الغزو والاجتياح .. والآن يا أبتِ .. ترى .. ماذا ستفعل بعد أن تيقنت أنها كانت مجرد أحلام , ماذا ستفعل وأنت ترى نفسك مكبلاً بالقيود والأصفاد , مساقاً إلى تعذيب وإذلال وامتهان , هذا الإذلال الذي طالما أذقته لشعبك الكادح الذي يحب بلاده , ويصيح بثوراته , علها تفيقك من أوهامك , ولكنها لا تزيدك إلا عنداً وقسوة ... أبي ... لا زلت حتى الآن أطلب منك .. بل أستجديك أن تنصت لنداء الواجب والعدل , لا تزال هناك القلوب التي أحبتك يوماً , فستعذرك وتحترمك .. كملك ... أرجوك يا أبي أن تعود أدراجك إلى بلادنا ... وأعدك يا أبي أن شعبك سيصفح عنك صفحاً جميلاً يليق بمقامه العظيم , ولكنني لا أستطيع إلا أن أؤكد لك أن النوبة لن يحكمها سوى أبنائها , لن يحمها سوى أبنائها ... إبنك المخلص لبلاده .. ولك . " يقرأ الملك الرسالة ولا يتمالك نفسه من البكاء ويدخل عليه الوزير ويفاجأ بمنظره , فيأخذ منه الرسالة ويفضها ليقرأها سريعاً وينظر إلى الملك ولا ينبس بكلمة "
الملك : أرأيت يا وزير .. هذا ولدي ... هذا ولدي ...!!!!!
الوزير : اصمد يا مولاي .. اصمد .. لقد حملت لك نبأً قد يكون ساراً
الملك : " يطرق حزيناً ويتمتم " هذا ولدي .. هذا ولدي ...
الوزير : لقد سمعت خبراً مؤكداً وصل لتوه من صفوف الأعداء , لقد بلغت ثورة المتمردين أوجها في بلاد الدلتا , وسيطرت على أغلب البلدان , وأصبح الجيش الأبيض محاصراً بين المتمردين داخل البلاد , والأعداء خارج البلاد , نحن يا مولاي .. نحن.. وأرى أنها فرصة سانحة لنا لكي نوجه ضربة قاصمة للجيش في معركة فاصلة .. نقضي بها على .....
الملك : " مقاطعاً وقد كفكف دموعه وتجلد " اسمع يا وزير , ونفذ كل ما سأقوله لك دون أن تناقشني , ستذهب الآن وتصدرأوامرك للجيش بالعودة إلى بلادنا ...
الوزير : " مقاطعاً في دهشة " مولاي ...!!!!
الملك : " صائحاً بحدة " لا تقاطعني , ستأمره بالعودة إلى الديار , والمشاركة صفاً بصف مع المتمردين .. أقصد .. " ويبدأ صوته في الوهن " أقصد مع المواطنين الشرفاء أصحاب هذه الأرض .
الوزير : " بلهجة استجداء " ولكن يا مولاي ....
الملك : " متابعاً " وليقولوا لهم أن بلادكم في خطر ... وأن مليككم .. أقصد من كان يوماً ما حاكماً ظالماً مستبداً قد مات , وهلموا لإنقاذ أرضكم .. أنقذوا أرضكم .. هيا اذهب .
الوزير : " بخنوع " أمرك يا مولاي ... " يذهب الوزير مسرعاً لتنفيذ ما طلب الملك , بينما يمتطي الملك جواده ويركض به بعيداً حتى يختفي عن الأنظار "
** المنظر الرابع **
( وبعد مرور أربعة أيام , يقف ملك الدلتا ووزيره في أرض المعركة الخاوية ...)
الوزير : " في دهشة " رحماك يا الله ..!!! وكأن حال الدنيا قد انقلب في أربعة أيام ...!!!!
الملك : " في ثورة عارمة وغيظ بالغ " ما العمل الآن ..؟؟؟!!! لقد انقلب الجيش كله علينا .. والأمر من ذلك .. آه .. الأدهى تلك الثورة العارمة الزاحفة علينا من بلادنا .. إنهم الثوار يا وزير .. أين ومتى .. وكيف تكونت تلك القوة .. أخبرني .. كيف يا وزير .. ألم تكن تختال بأن لك عيوناً وآذاناَ بعدد رمال صحراء تلك الرقعة ... أين هي عيونك يا أعمى .. أين آذانك يا أصم ... ؟؟!!!!!
الوزير : إهدأ يا مولاي .. لا أدري ولا أتخيل من أين لهذا الكم من الثوار والمتمردين الغوغاء بتلك القوة والنظام والترتيب .. وكأن أهل الدلتا وأهل النوبة قد اتحدوا على هلاكك يا مولاي ..!!!!
الملك : هلاكي ... !! هلاكي وحدي ..!!! وأنت .. أين أنت من كل هذا .. ستتناوبنا أنياب الهلاك يا وزير .. !!!
الوزير : " هامساً " أصمت .. أصمت ... " يسمع صوت صهيل خيول آتية " تعال في صمت نستتر وراء هذه الصخرة " ويختفيان وراء صخرة بجانب أحد الطوابي , ويظهر الجنديان من الجيش الأبيض "
الجندي الآخر : لا أصدق ما حدث ويحدث .. أتصدق أنت يا زميلي ..؟؟!!!!
الجندي الأول : نعم .. بالطبع أصدق .. وكيف لي ألا أصدق .. ألم تخبرك الفلسفة يا صديقي المفكر أن القيمة العليا والمثال الحقيقي لابد له وأن يطغى في النهاية على المثال المزيف , ألم تصل بتأملاتك إلى أن الحق قيمة لابد أن تمحو كل آثار الكذب والطغيان ..!!!إنها النهاية الطبيعية لعصر الظلم , لقد ثار المواطنون على ملك النوبة وخلعوه وحكم البلاد أبنائها , وها نحن قد خلعنا ملكنا وهرب هو ووزيره , ولم يبق لهما أثر , اتحد المواطنين من جنوب الأرض وشمالها على تخليص البلاد من البطش و الاستبداد ..
الجندي الآخر : نعم .. إن الثائر على الظلم يثور عليه في أي مكان وفي أي وقت , إن أهل النوبة لم يكونوا مطلقاً من أهالي الدلتا , ولم يشعروا مطلقاً بالظلم الواقع على أهل الدلتا , ولكنهم ثاروا على الملك بحماسة لا تقل عن حماستنا ..
الجندي الأول : وقد تركونا وعادوا إلى بلادهم ليشاركوا في إعمار بلادهم وبنائها من جديد , متحدين تحت لواء تلك الروح الجديدة التي أحياها ابن ملك النوبة المخلوع , هذا الفتى الذي ثار على الظلم بالرغم من أنه لم يتجرعه مثلما تجرعه الشعب المسكين , ونبذ حياة الرغد والملك وهبط إلى صفوف العامة ليزيح عن الشعب غمته التي صنعها ونسج خيوطها والده ..
الجندي الآخر : آآآه .. صدقت ... ليس شرطاً أن يتذوق الإنسان مرارة الطغيان ليثور عليه , يكفي أن يعرف فقط أن ثمة طغياناً فيستيقظ ضميره , وتتحرك لديه معاول التمرد ..
الجندي الأول : وها نحن نخرج من ظلمة الفساد , ونقف على أعتاب عصراً جديداً , لا ظلم به , ولا تمرد ... فسيسلم لكل شعب مقاليد حكم مملكته , فيحكم الدلتا أبنائها , ويحكم النوبة أبنائها ...
الجندي الآخر : " وقد بدا عليه القلق , فيصمت مفكراً للحظات ثم يقول " ولكن .. ألا تساورك شكوكاً يا عزيزي ...؟؟
الجندي الأول : " مستفهماً " مم ..؟؟!!
الجندي الآخر : ما الذي يضمن لنا أن حكام الدلتا , أو النوبة , الذين هم أهلها أنهم سيحكمون بمبادئ العدل والحرية والمساواة التي أقرتها الثورة ..؟!!! ألا يرد افتراضاً أنهم من الممكن أن يتحولون عنها بعد أن تلمع في عيونهم أضواء السلطة وبريق المجد , ونعود من حيث بدأنا ..!!؟ " يطرق الجندي الأول مفكراً في هذا الحديث , وكأنما أقلقه كثيراً , ويومئ له برأسه وكأنه يتفق معه في ظنه , ويروح في تفكير عميق وقلق أعمق . بينما صوت سقوط حجر يشق هذا الصمت فيفيق كلاهما من تأملاته , ويهرولون نحو صوت الحجر الذي سقط من وراء صخرة فيجدون ملكهم ووزيرهم مختبئين وقد كست وجوههم صفرة , ويحاولا الفرار فيلحق بهما الجنديين "
الملك : " في استجداء " أرجوكما اتركانا .. اتركانا نهرب ... لقد حصلتم على ما تريدون .. فما الفائدة من قتلكم إيانا ... ؟؟!!!
الوزير : " متفحصاً وجه الجندي الفيلسوف " أنت أيها الجندي , ألم تكن مطيعاً أثناء خدمتك العسكرية , لقد كنت الأكثر خضوعاً , وكنت تنفذ ما تؤمر به دون جدال .. ما الذي حاق بك ..؟؟؟
الجندي الأول : حدث له مثلما حدث للكثيرين غيره , أفاقوا جميعاً مثلما أفاق هذا الملك الظالم في غير الوقت المناسب , هذا الملك الذي أفاق من هذا المخدر الذي كنت تروي به أذنيه كل مساء , وتغشي به عينيه كل صباح وتسقطه في بئر نفسه العميق وهو يمشي , وهو يقف , وهو جالس , وهو نائم .. هذا المخدر الذي أضحى إدماناً , لا يكف هذا المغرور عن تعاطيه " ويشير إلى الملك " هذه هي نتيجة إدمانك أيها الملك " ويشير إلى الوزير " وهذه هي نتيجة تخديرك له أيها الوزير .
الملك : " مستجدياً " نعم .. نعم .. لقد تم تخديري .. لقد خدعت .. خدعني هذا الشيطان الماكر .. إنني ضحية .. تماماً مثلكما .. فاتركاني وخذوه .. كبلوه وعذبوه .. إنه الجاني ...
الجندي الآخر : لا يا مليكنا المهزوم ..!!! ليس هو الجاني .. بل ذاك الضمير الأسود الذي عهدناه في فترة حكمك البائد , ذاك القلب المتعفن الذي فاحت رائحته النتنة لتعبث بنفسك التي صارت خادمة لشهواتك وملذاتك وغرائزك الدنيئة , أحببت السلطة عن حبك للعدل والحق , فهويت وهوى معك الخير بداخلك , فلم تر سوى سلطانك الذي يخول لك سفك الدماء وهتك الأعراض وإفشاء الظلم والاستبداد " ويحيل عينيه إلى الوزير " وهذا الوزير الذي حركته مطامعه , ما كان يدريك أنه لن يفتك بك في أي وقت ليثب هو إلى عرش الحكم مكانك ..؟؟!!!!
الوزير : ماذا بك أيها الجندي الطيب , لقد كنت مضرب المثل في الانعزال والطيبة .. لم تكن تتفوه بكلمة الدماء , أين الانكسار والهوان واليأس الذي كان يملأ نبرات صوتك ..؟؟؟!!!!
الجندي الآخر : أو ترى أن ما ذاقه الشعب من هوان وانكسار ويأس لا يحرك الحجر الأصم ليصرخ ( لا ) , " يبتسم الجندي في شماتة " ولكن لا عجب .. فإنك لم تشعر بما شعر به الشعب من ظلم , وأنا لست صخراً أيها السفاح , إنني إنسان , ومواطن مخلص لبلاده , ولم أكن أكره في حياتي شيئاً مثلما كرهت منظر السيوف والدماء .. ولا زلت ... ولكن إذا كان السيف هو السبيل إلى الخلاص من الطغيان , فإنني لن أتردد مطلقاً " ويستل الجندي سيفه بقوة ويغمده في قلب الملك ووجهه ممتلئ بالحماسة والزهو , بينما يضرب الجندي الأول عنق الوزير بسيفه في غضب عارم "
" وبعد فترة , عثر على جثة ملك النوبة في الصحراء وقد تعفنت , وصارت غذاءاً للنسور والوحوش , بينما تم القبض على ملك الدلتا وأودع سجن القلعة , بأمر من المحكمة الشعبية التي غاب عنها ولده .. "
( عاد الرجل وزوجته فوجدا الملكان والوزيران ملقيان فوق الرقعة , بينما تراصت باقي القطع من طوابي وخيول وفيلة في انتظام , ووقف الجنود مصطفين يملؤهم الشموخ والعزة , وكأنهم ينتظرون معركة جديدة , مع ملك جديد .)
تمت
أحمد عبد الحي شلبي
الأربعاء
1 / 12 / 2004