2011-04-18

أبي

          إذن , فقد تقدم بك العمر كثيراً , حتى رأيت أخاديداً تنبجس من وجنتيك ورقبتك , ازدادت البقع البنية على ظهر كفيك , واختفت الشعيرات التي كانت تملأ ذراعك والتي كنت أتسلى بنزعها وأتلهى بتأوهاتك الباسمة , خف كثيراً ذلك الشعر الأبيض الملتف حول دماغك تاركاً بقعة جلدية لامعة في وسط الرأس , غارت مقلتيك للداخل وبدت عينيك وكأنهما سقطتا في مستنقع من التجاعيد . ازداد الانحناء كثيراً , ونحل الجسد المكتنز , ولكن الوجه لا يزال منتفخاً وكأنه يأبى الاستسلام لتطورات العمر . تغير الكثير بهيئتك , ولا تزال ابتسامتك رسالة إلهية يحملها نبي يبشر ويكرز , وفي أغوار عينيك أستطيع تلمس الطريق إلى الأمل . تغيرت كثيراً , ولكن لا يمكن أن ينسى المرء منا هيئة والده ... أبي , تجلس أمامي الآن , وبعد انسحابك هادئاً من جوار الأحياء منذ ثمانية أعوام .

          بغرفة نومي , اتكأت بمرفقي الأيسر على الوسادة الوثيرة , وامتد بصري إلى الكرسي الصغير أمام المرآة . كان الشخص الجالس هو أبي , رحمه الله . وإذ لم ينتابني رعباً فقد رحت أبتسم له , وطردت من خاطري إلحاحاً باطنياً على النهوض والذهاب إليه لتقبيل رأسه أو حتى لربت كتفه . لقد افتقدته كثيراً , ولكن أعلم أن الجالس على الكرسي خيالاً وطيفاً , لا أكثر من ذلك , بأي شكل من الأشكال . اكتفيت بمجاراة خيالي المريض , مستمتعاً بمحياه الغائب عن ناظري لوقت طويل , وتعجبت كثيراً لتلك التغييرات الطارئة على وجهه وجسده , لم يكن كذلك حين رأيته آخر مرة ... لماذا تبديت لي في هذه الصورة ... وليست الصورة الأخيرة التي كانت بالطبع أفضل من تلك الحالية ... ؟؟؟؟

          -  قد يكون هذا هو شكلي الحالي

          سمعت صوتاً للتو , لم يكن مرضاً أصاب سمعي كالذي أصاب خيالي . أعلم أن موجات صوتية ارتطمت بطبلة أذني الآن , لم أجن ..... ولن تنكر مسامعي مهما طال المغيب صوت والدي الممتلئ بالمرح , بالضبط كعيني التي لا أشك الآن أنهما رأتاه ينهض ويسير الهوينى نحو زجاج النافذة ناظراً بابتسامة عين وشفاه نحو السماء الزرقاء .

-    تتعجب كثيراً , كما هي عادتك , من هيئتي .. وأجبتك بأنها قد تكون تلك هي هيئتي الحالية لو أنني لا زلت أحيا ... أليس ذلك منطقياً ... ؟؟؟؟

اعتدلت في جلستي , في حضرة والدي لا يصح أن أتكئ بهذا الوضع , وانتصبت في وقفتي , مبعداً عن رأسي فكرة الذهاب إليه , أو حتى السير نحوه والاقتراب منه , واكتفيت بالنظر إليه ... ثارت في روحي ملايين الأحاسيس , حتى أكاد أفشل في التعرف على أحدها منفرداً , فقررت التركيز في اللقاء المفاجئ , الذي يبدو أنه قد تم في غفلة من الزمن وخالقه . تراخى جسدي قليلاً , فأسندت كتفي إلى الجدار الذي يفصله عن السرير مسافة نصف متر , مشكلاً ممراً قصيراً يرتشق في وسطه جسدي الحقيقي , أو كذلك يبدو لي , بينما تنفلت من كل ثقوب هذا الجسد قطرات روحي , تتساقط على أرضية الغرفة الرخامية فتتجمع في خيوط , تتضخم فتصبح أنهاراً تصب أخيراً عند قدمي الجسد الآخر في الغرفة , الجسد الغير حقيقي , أو كذلك يبدو لي .

-         إذن فأنت أبي , جميل , جميل جداً .
-         إذا كنت قد حضرت في وقت غير مناسب , فبإمكانك أن تذهب أنت . أما أنا فلن أبرح الغرفة حتى أنتهي
-         مم .؟
-         مما أتيت من أجله .
-         وما هو .. ؟؟
-         قد لا يهم الآن ... كيف حالك .. ؟؟؟
-         بخير .. طالما أنت تشعر بالراحة .
-         لا تقرن نفسك بي , لحياتي الآن مفاهيمها الخاصة التي لا تنطبق على أمثالك . أطال الله عمرك .
-         كما أطال عمرك .
-         وعلى الرغم من ذلك , غادرت الدنيا وكأنني لم ألبث بها لحظات .
-         أنهيت ما جئت من أجله , سنن الله في الخلق .
-         ولكن الإنسان يهتك سنن الله .
-         كما فعلت أنت .. ؟؟!!!!
-         وكما فعلت أنت أيضاً .
-         لا داعي لنبش الماضي , كفانا الاطمئنان على أحوال بعضنا الآخر .

صوت زقزقة العصفور المحبوس في قفص أرجواني معلق بالخارج على جدار الشرفة , صوت فحيح أوراق الشجر السميكة وصوت اصطدامها بزجاج النافذة , صوت أنفاسي اللاهثة , وصوت نبضات قلبي . تحرك جسده بلا صوت والتفت نحوي لتلتقي أعيننا في صراع تغلفه الوحشة والاغتراب . يقترب خطوتين , ولا أجرؤ على الاقتراب أو الابتعاد . نظرات متلاحقة , التهمت عيناه وجنتي وشعري وعيناي وشفتاي وأزاحت بشعاعها الأثيري تلك الملابس التي تستر جسدي فتفحصتها حتى ارتوت . عاد لجلسته السابقة على الكرسي الصغير , وعلى الرغم من أن ظهره كان ملاصقاً تقريباً للمرآة فإنني لم أجد صورته المنعكسة على تلك المرآة ... كان الكرسي شاغراً .

-         استأت كثيراً عندما علمت أنك أبيت حضور إجراءات الغسل والدفن .
-         لك الحق .
-         أكنت تخشى المنظر .. ؟؟؟؟
-         أهاب الموت منذ طفولتي , وأرتعد خوفاً من النهاية
-         لم أكن أعلم .
-         ومنذ متى وأنت تعلم شيئاً .

كان الحوار ملتهباً , لا يليق بأب وولده , كما لا يليق بكيانين على حافتي الوجود .

-    لقد قررت أنت بنفسك أن تكمل حياتك مع والدتك , ولم أجبرك على ذلك , بل إني طلبت منك أن أتكفل بك بشكل كامل , فأبيت .
-    أعيش برفقتك وزوجتك الحنون , عرض ممتاز , ولكن إصرارك على هجرتي والدتي تماماً حطم سخاء العرض . ألا ترى ذلك .. ؟؟؟؟
-         أردت أن أصنع منك رجلاً , أن يربيك رجلاً خير من تربيك امرأة .
-    لو كان الأمر كذلك لكانت سنة الله في خلقه أن يتزوج الرجال بعضهم البعض . وعلى الرغم من ذلك , فقد راجعت نفسك قبل وفاتك بسنين قليلة , وراجعت نفسي كذلك , وعادت بعض قطرات الدماء لتبلل بعض العروق ضاربة شكلاً باهتاً من أشكال الحياة على علاقتنا الغريبة , وعدت لزيارتك بين الحين والآخر . أعتقد أنك كنت سعيداً بذلك .
-         ولكنك أنت لم تكن سعيداً .

أتجنب الصدمات دوماً , وأخشى أن تجرح كلماتي مشاعر الأشخاص , ولكن أبي - والحال هكذا - ليس شخصاً , كما أن الموقف يملي الصراحة أكثر ما يملي التصرف بلباقة .

-    لقد ابتعدت عني , أو ابتعدت عنك , طيلة فترة حساسة للغاية في تشكيل وعي الإنسان . تلك الفترة التي تتبلور فيها المعاني والمفاهيم التي تصوغ مستقبلاً الخطوط العامة لشخصية الفرد ....
-         تتحدث مثل عمك .
-         ولما كان أبي في تلك الفترة لا وجود له فقد ثبت لدي عدمك من حياتي وإحساسي . أرجو ألا تغضب
-         لا غضب .
-    لذلك فقد كانت زياراتي لك في الآونة الأخيرة سببها إرضائك , فقط , بعد نصائح والدتي وإخوتي وأخوالي ... أرجو أن تسامحني لصراحتي .
-         سيأتي اليوم الذي تتصرف فيه بشكل يذكرك بما فعلته أنا معك .

قال عبارته الأخيرة باسماً , ولم أدرك مقصده , إلا أني تابعت ...

-    أتعلم يا أبي ... لقد أخطأت في حقك كثيراً . ولكنك ستلتمس العذر لي . لقد كانت طفولتي غريبة , حقاً . ينشأ الإنسان بين أبوين في بيت واحد , وقد نشأت في بيتين . لكل منا أم واحدة , وقد وهبني الله إثنتين . أتعرف يا أبي خطورة أن يكون للإنسان في طفولته منهلين ... ؟؟؟؟  بالضبط كجندي يرتدي زياً مخالفاً لزي أقرانه وأعدائه , ولكنه مزيج بينهم , فلا يدري إن كان عدواً أم صديقاً ... !!!
-         ولكنك الآن رجلاً سوياً .
-         لا يجوز لي أن أحاسبك على قرارك بالانفصال عن والدتي , قد يكون قراراً صائباً .
-         جميل أنك تلتمس الأعذار .
-         لقد تميزت بعنادك الوفير , الذي ورثته عنك .
-         للعناد مزايا .
-         أعلم . ولكني أفتقدك الآن كثيراً .

شعرت ببوادر انهيار , بدأ الصدع من الداخل إلى الخارج , وأحسست بأن أصابعي الصغيرة العابثة بشعيرات يده قد بُعثت من عصور موغلة في الظلام . وفشلت في إخفاء تلك الرغبة في احتضانه . خطوة واحدة للأمام , أصبحت يداه في متناول كفي . أمد يدي لأتصل بعالم آخر لا أبغي منه سوى رشفة رحيق تعينني على احتمال المجهول , أو تحيلني رماداً . تصلب الجسد الجالس أمامي , أحسست أنه مات ثانيةً , جثوت على ركبتي أمامه , مسافة ضئيلة تفصل الوجهين , ودهوراً أيضاً . لمحت في الحدقتين الغائرتين صورتي المنعكسة , كانت واضحة بالرغم من ضآلتها , وتبينت ملامحي , ملامح جديدة , شعرٌ أشعث , لحية طويلة وابتسامه عريضة , نور يغشى الجلد الأبيض بين خصلات الشعر المتهدل واللحية الكثة المنمقة , وكانت نظارتي الذهبية الرقيقة قد استبدلت بنظارة والدي السوداء السميكة . تلك كانت صورتي التي نقشت في قلبي بأحبار الفراعنة الأبدية . وهممت أخيراً بتنفيذ رغبتي الملحة , وأقلع كف يدي الأيمن من مطار السكون المطلق لكي يحاول الهبوط بين غابات الشعر الكثيف الذي رآه خيالي ولم يكن موجوداً , وفي الهواء علقت يدي , ولمحت بطرف عيني اليسرى انفراجة صغيرة بباب الغرفة , أخذت تتسع وجيوش النور تتسلل أحياناً وتندفع أحياناً مع اتساع الزاوية . وبدا من خلف الباب ولدي الصغير الذي يستطيع بالكاد الإمساك بمقبض باب الغرفة ليفتحه وينير ظلمة الغرفة وحياتي . دون أن ينبس بكلمة من كلماته الطفولية , جلس أمامي على الكرسي , وتناول يدي العالقة في الهواء بكفه الصغير ووضعها على رسغه الممتلئ لحماً ونوراً , والناعم كوبر الخوخة . أسلمت روحي لعينيه , وانكشفت في حدقتيه صورتي . ولكنها صورتي الحالية التي أعرفها جيداً .

8 – 1 – 2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق