-
لم يكن الأمر سهلاً يا عزيزي .. إن المرور بين صليل
السيوف وصهيل الخيول تماماً كمراوغة الموت ... يدمي غبار الحرب عيناك , وتسقط تحت
أقدامك قتلى , تلوث دمائهم صدرك وفخذيك .
-
عانيت إذا ... ؟؟؟؟
-
بل أكرهت ... !!!!
بدت بشرته السمراء
كأنها ليل بلا ضحى , تبدو مقلتيه متأرجحتين في بياض عينيه , ذلك البياض الذي يكسر
حدة السواد التي ابتلع وجهه , ذلك السواد الذي يراه بعضنا عبر السطور التاريخ
حقداً وسوءاً . بشكل أو بآخر , تمكنت من مقابلته , ذلك العبد الأسود الذي طارده
ماضيه , وكانت له الذاكرة رمحاً يرتشق دوماً بأفكاره وساعات حياته , رمحاً .. كذلك
الذي أدخله التاريخ . ذاكرته وتاريخه
رمحاً دامياً ... لطالما أورثه البغض والكراهية .
-
للسادة منطق حياة , وللعبيد منطق مغاير ... تماماً .
صمت قليلاً ثم أردف :
-
وإذا كان للسادة أحلاماً وأهدافاً ومرامِ وطموحات ,
تتعقد وتتشعب وتتلاقى , فإن للعبد منا هدفاً واحداً .. أو بالأحرى ... حلماً ...
يروم إليه , ويكون مستعداً لأن يهب سني حياته كاملة مقابل أن يحيا يوماً واحداً
يستنشق فيه هواءاً آخر غير الذي يتنفسه .
أطلت على وجهه بجلاء
ملامح متشابكة , تختلط فيها الحسرة مع الألم مع الأمل مع الوهن , واستطرد مطلقاً
زفرة حملت في سخونتها عويل سنين الرق :
-
العتق ..... العتق ...... هو الحياة لأمثالنا .
رمقني بابتسامة ,
وبدأت أسارير وجهه تنفك رويداً , بدت بقايا أسنانه البيضاء التي غيرت الخمر لونها
من خلال شفاه سوداء غليظة لم تخل من بعض التشققات , وتابع :
-
بالطبع لن تشعر أنت بمثل هذه النعمة ....
قاطعته ببعض خشونة :
-
ولا أريد أن أشعر , ولا من أجل ذلك أتيت .... جئت لأعرف
منك ماذا فعـ .........
-
( قاطعني بحدة )أعرف جيداً ماذا تريد , وأعي غرض زيارتك .... ليست هي
المرة الأولى .. ولا أظنها ستكون الأخيرة التي أُسأل فيها هذا السؤال .... كلما
حطت قدمي في أرض أتوقع زواراً .... أمثالك .... من يثرب إلى الطائف إلى مكة إلى
الشام إلى اليمن . ما أن يعلموا بمقدمي حتى يتناوبوا زيارتي , فيسألون نفس السؤال
, وأجيب ذات الإجابة . اعتدت السؤال والإجابة .
-
أتمانع إن عرفت منك ... ؟؟؟
-
على الإطلاق , ولكن يمكنك التعرف على ما تريد من كتب
السير والتاريخ , فهي ملئى , ومستفيضة ..
-
أعتقد أن الأمر لديك مختلف , ثمة ما يجذبني إليك وإلى سر
وراء فعلتك .
طرقت للحظات ,
وتناوبتني خيالات وأفكار طالما أرقتني , نظرت إليه مباغتاً , متخلصاً من شرودي :
-
أرى أنك تحاول التملص من الإجابة .... أمن أثر جرح يسببه
لك تذكر الأمر .... ؟؟؟؟؟
-
إطلاقاً ... ليس ثمة أثر , لأنه لم يكن هناك جرح أصلاً
....
أذهلني ثباته , وجلده
وتحمله , وأفزعتني نظرته التي يملؤها السكون والهدوء . لا يمكن أن يكون هذا الرجل
هو قاتل حمزة .
راح
يزبد ويرغي , يسعل بين الحين والآخر , وتتبدل قسمات وجهه وملامحه , ويروح في نشوة
الحكي يهز يده في الهواء محاكياً وقفته في " أُحد
" حال تصويب حربته إلى صدر
أسد الله . وفجأة , امتقع وجهه كأنما رأى جان , وشرد , وعينيه تائهتان على يساره
في عالم آخر , ولما طال شروده وكزته في فخذه النحيل , نقل عينيه نحوي ووجهه على
حاله , وقال بنبرة صوت أعيته الذكرى :
-
تذكرت وجه الرسول حين تلوت على مسامعه ما اقترفته بحمزة
يوم أحد .
كانت الكلمات تخرج من
فمه كالروح الخبيثة تخرج من الجسد الدنس , تابع , وكأنه انتشى بشعور الألم :
-
هو من دعاني إلى ذلك , بل وأصر , أفضت في السرد , كيف
ومتى وأين قتلت عمه . لقد كان يصر على أسنانه , وينكمش جلد وجهه , ويغمض عينيه
توجعاً , كنت أستشعر الرعدة تسري في جسده طيلة روايتي , حتى إذا انتهيت , لم يستطع إخفاء امتعاضه وألمه أكثر من ذلك ,
انتفض صائحاً : ( ويحك ... غيب عني وجهك فلا أرينك ) . وظل الحال
بي هكذا .. إمتثلت لأمر الرسول , كنت ألوذ بمخبأ كلما رأيت الرسول قادماً , وكنت
أتستر عن عينيه وراء الحجب والآطام , إلى أن قبضه الله .
في طريقي لمرادي ,
التقطت بداية الخيط , وسارعت بارتداء وجهاً تهكمياً ساخراً أجيد استخدامه :
-
أرجو أن تلتمس له العذر ... فقد قتلت عمه ... !!!!!
يبدو أن لهذا الوجه
تأثيراً . إنتفض الرجل , واغتاظ بشدة , وبدت حمرة خفيفة على وجنتيه المبللتين
بالعرق , وحاول النهوض في غمرة حنقه , ففشل . نهرني بشدة حتى برزت عروقه من رقبته
:
-
ويحك ... أستشعر في حديثك نبرة تهكم على رسول الله ,
إياك أن يكون ظني صائباً , وإلا ..... , وإلا .....
ظل يتوعدني بسبابة
يمناه , محاولاً أن يضفي على وجهه ملامح الغضب والوعيد , إلا أن كلماتي قصمت تهديده
:
-
لم يعد لك من الأمر شيئاً يا وحشي , لقد طعنت في السن ,
وهرمت , وخارت قواك . دعك من وعيدك وغيرتك المصطنعة على الرسول , ألقِ عنك قناع
الإسلام يا وحشي . ( بنبرة هادئة )
إنك لم تكن يوماً مسلماً بحق , إنما اعتنقت الإسلام بغية اتقاء شر انتقام الرسول .
-
( ثائراُ ) كذب .... تقول الكذب أنت لا الحقيقة ....
اختنق صوته , وكاد
يجهش بالبكاء . استند على نمرق موشى بزخارف فارسية لا يبدو أنه مهتم بتنظيفها منذ
زمن , وجاهد ليقيم عصب قدميه بعد أن أمسك بجذع نخلة مبتور بوسط الخيمة . هو العبد
القوي إذاً ذلك الذي يقف أمامي الآن , يجتهد ليخفي انحناءة ظهره , كالثمانينية
تحاول عبثاً إخفاء تجاعيد وجنتيها . ابتعد خطوات عني , ثم وقف والتفت إلي , ومن
مكانه أرسل كلمات " استمع إلى جيداً " . بدت نظرة الجد في عينيه , وكأنه
مقدم على اعتراف , بدأ يتهادي نحوي , لا أدري إن كان بطء خطواته من وهن أم من
بخترية :
-
أعلم أن للقدر سخافاته التي لن يتورع أبداً عن معاقرتها
, وأدرك جيداً أن التاريخ هو الآداة التي يستخدمها البشر لإيلام بعضهم البعض , وأن
من مثلك ما هم سوى لصوص .... للأسرار والذكريات .
بدت مهمتي الآن صعبة
, بل شبه مستحيلة , لقد أفرغ الرجل ما في جعبته . وكأنه أفرغ ما بجعبتي أنا أيضاً
, بدت نظرته تخترق حجب الذات , لذت بالصمت ... خاصة وقد لمحت في عينيه رغبة في
الاستطراد :
-
سأخبرك ما تود سماعه .
أعترف بغبطتي , سأسجل
تواً اعترافاً تاريخياً , تهيأت للاستماع وأصخت السمع وأرهفته حتى كدت أستحيل
أذناً كبيرة تلتصق بلسانه :
-
يصلكم عبر الوثائق والروايات والشهادات التاريخية ما
يروى ظمأكم , ويجعلكم تتيهون فخراً بمجد الآباء وعظمة الأجداد . وتاريخ الإسلام –
كما يصلكم – ممتلئ بتلك السير وتينك الروايات التي تزخر بذكر مناقب أصحابها
ومحاسنهم , وقد يكون ذلك صواباً . إلا أن ثمة وجهة نظر أخرى , وهي اننا في المقام
الأخير بشراً , نتعامل بمنطق الاستثمار في الخطأ والصواب , نرجئ أحكامنا من أجل
رغبة , ونعجل قضاءاً بغية دفع مضرة أو جلب منفعة , نرتكن إلى قلوبنا وعاطفتنا في
المقام الأول .. وليس العقل .
لم أدرك ما يقصد ,
حتى أنني لم أستطع معرفة سبب هذا الحديث أو ما يعنيه . فاجأني بسؤال وهو يقترب مني
خطوة :
-
هل تدري كيف أسلم حمزة ... ؟؟؟
بدا لي السؤال مغلف
بالمكر , ولما لم أستطع فض غشاء خبثه , طفقت أسرد قصة إسلام حمزة وهو يرمقني
مبتسماً , ولما انتهيت , أعطى للصمت فرصاً ذهبية لينهش في مخيلتي , بينما هو لا
يزال يرمق وجهي , ويهز رأسه مبتسماً بمكر ودهاء ممتزجان بنشوة نصر , بلغ الصمت
مبلغاً مهيناً لي , وامتد ليصل بي إلى حد أن انتفضت واقفاً لأواجهه بكلمة واحدة
فقط :
-
ثم ..... ؟؟؟؟؟!!!!!!
ووجد من المناسب أن
يتابع , خرجت الكلمات من شفتيه ثقيلة , بطيئة , يتعمد نثرها بتأنٍ علّني أتدبر ما
ورائها :
-
ما ظنك وقولك في شخص اعتنق ديناً بهذه الطريقة ...
؟؟؟؟!!!!! ( صمت قليلاً ثم تابع ) أستمحيك عذراً , تحمل ثقلي , وسوء نيتي ,
ودمامة تساؤلاتي , استفسار آخر ... ( صمت قليلا واستطرد ) ما رأيك في قصة إسلام عمر ... ؟؟؟؟؟ !!!!!
إلى هنا أعتقد أنه
حقق انتصاراً , لقد تمكن الرجل بالفعل من جذب قدمي إلى دائرة التأمل , لاحظ شرودي
في عالم آخر بينما ناظري معلقان بوجهه بلا حركة . استطرد قائلاً :
-
أتعتقد في منطقية اعتناق رجل للدين بهذا الشكل وبتلك
الطريقة وبذلك الأسلوب .... ؟؟؟؟ !!!!
راحت صوراً ومشاهد
تخيلية تتبعثر أمامي لفصول مترامية في مسرحية عظيمة اسمها " السيرة " ,
أو ما وصل إلينا عن سِيَر الصحابة ومناقبهم , لم أستطع وقف حركة هذه الصور التي لم
أستطع حتى تبين ما إذا كانت مشوشة أم واضحة .
أثار الرجل بوعيي عواطف
من التأملات , وفجر ينابيع الأسئلة من رأسي تكاد كثافتها تحطم عنقي , أعدت - بما
تبقى لي من وعي - قراءة بعض المواقف , وجاهدت لتتبع مسار بعض الأحداث , وحين
أعيتني المحاولات .. قررت التوقف , ريثما أستريح قليلاً , وأنتهز الفرصة لأسأل
الرجل عن مقصده ومبتغاه بعد أ، أغرقني بسيل من التأملات , نظرت في وجه الرجل
الأسود , وأدقق في ملامحه , وأصعق حين أفاجأ بأن عيني معلقتان بعمود من الجرانيت
ببهو أحد المنازل , وأستفيق على جذب صديقي من يدي لاستكمال مهمة ما .
أين الرجل ..... ؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!! أين قاتل حمزة ....... ؟؟؟؟؟؟
!!!!!!!!
إختفى ...........
؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!! أم أنني استحضرته خصيصاً
من خزانة التاريخ لأقيم معه شكوكاً يدعمني فيها وأرتكن إليه بخصوصها .... ؟؟؟؟؟؟؟؟
!!!!!!!!
ما كان كان .....
والآن ...... أغارقٌ أنا ...... أم أنني اهتديت ..... ؟؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!!!!
================================
أحمد عبد الحي شلبي
19 - 9 - 2011
19 - 2 - 2012