2011-04-24

منير

بعد يوم شاق وطويل في العمل , ركب " منير " سيارته , وكما هي العادة , نسي أن ينتظر شقيقته التي تعمل في مدرسة للتعليم الفني تقع أمام مبنى عمله , وتحركت سيارته مسافة ليست كبيرة , ثم عاد ليجد شقيقته تقف تحت إحدى الشرفات لتستظل بها من لهيب شمس الصيف , ابتسمت شقيقته حين رأته عائداً , فتنفس الصعداء , وخمن بأنها اعتادت الأمر , وأنها لن تغرقه بسبابها المعتاد , وقف بسيارته أمامها , فركبت السيارة , ولا تزال الابتسامة تعلو شفتاها , وما أن أغلقت الباب واستعد " منير " للتحرك , حتى انتفض تحت وابل الصراخ والشتائم التي أمطرته بها شقيقته , لم يطل عجبه , وسرعان ما أدرك أن الابتسامة لم تكن من نصيبه , وإنما كانت مسددة لأحد العاملات معها بالمدرسة والتي كانت تمر أمامها لحظة وصول منير بسيارته , خاب ظنه , واستظل بصمته من أمطار سباب شقيقته .

          لم يكن مدخل العمارة التي يسكنها " منير " فخماً , وإنما حاول سكان العمارة أن يجملوها بوضع بعض الورود الصناعية وأشجار البلاستيك , بعد أن فشلت محاولاتهم لتشجير المدخل بزرع حقيقي , حينما أهمله البواب متعمداً لأن الناموس الجاثم على الورود والأزهار والحشرات الزاحفة على التربة الطينية , طالما قضت مضجعه وأقلقت منامه .. فكانت الزروع البلاستيكية الصماء خير مخرج وأفضل الحلول الوسط . تسرع " هبة " شقيقة " منير " بسيرها كعادتها حين يثير " منير " استفزازها بصمته , وتجلجل طقطقة " كعب " حذائها على الرخام الرخيص المهترئ في مدخل العمارة , بينما ترجل " منير " من سيارته ذاهباً إلى " أم دينا " صاحبة حانوت للزينة على ناصية الشارع الموازي لشارع منزله , كان ضرورياً أن يصلح ما أفسدته ذاكرته الحريرية بأن يحضر شئ ما لشقيقته التي تنسى الإساءة في لحظة , مثلما تنسى الإحسان في لحظة .

==================
         
          اجتاز " سامح " الشارع العريض الخالي تقريباً من السيارات , والذي كلما عبره لعن إدارة مدينته التي تهدر كل تلك المساحة العريضة في شارع لا هو بالرئيسي , ولا هو بالعمومي , ولا هو بالفرعي ... واغتاظ كثيراً عندما علم أن 20 % من ميزانية مدينته السنوية تذهب في تشجير ورصف وتعبيد هذا الشارع .. ) أهل هو مقدس .. !!!؟؟؟ ( , يسأل نفسه دوماً نفس السؤال , ويلعن السبب الذي يجبره على عبور هذا الشارع , لقد أجبر أصدقائه على تغيير صالة " البلاي ستيشن " التي أعتادوا الذهاب إليها لأنها كانت تتطلب أن يعبر إليها ذلك الشارع , وقد كان جاداً في مطلبه , وقد وافقوه . إلا أن " الشديد القوي " هو ما جعله يمضي عبر الجحيم , فقد عاد صديقه القديم " محمد " من السفر , واتصل بـ " سامح " ليقابله في " كيكو " وهي صالة البلاي ستيشن التي يعرفها , ولا يعرف سواها , وقبل " سامح " على مضض , وذهب مرغماً لمقابلة صديقه .

          في شقة صغيرة أعيد تصميمها لتناسب ملتقىً للشباب من مدمني لعبة البلاي ستيشن تبادل الأصدقاء القدامى أحضاناً ومصافحات حارة مع " محمد " العائد تواً من غربته الطويلة في دول الخليج , وتبادل الأصدقاء النكات والذكريات والمواقف الهالكات , وسط ضحك صاخب , ولم تمر دقائق حتى ذاب الإحساس بالافتراق , وعادت لحظات الوصال كما لو كان غياب السنين سراباً . زف إليهم " محمد " مفاجأة , فقد أخبرهم بقراره الزواج من إحدى العاملات معه بالخارج , مغربية الجنسية , وسوف تصل إلى مصر قريباً ليعقدا قرانهما ثم يعودا لسيناريو الاغتراب المقيت بعيداً عن أوطانهما , وبين مشاعر الفرح قاموا جميعاً لتهنئة صديقهم بالخبر الميمون , وبدوره قام " منير " ليهنئ صديقه , ولم تغب عن شفتيه ابتسامة غريبة الدلالة , غريبة جداً .

          انصرف الأصدقاء , وبقي " سامح " و" منير " , الصديقان القديمان قدم السماء , مضى وقت طويل على جلوسهما منفردين .....

منير :            ولقيت نفسي هدخل في مشاكل مع التأمين الصحي بسبب دكتور " أدهم " , فقررت إني أعمل النظارة على حسابي في أي عيادة .
سامح :          والله أحسن , أنا مش عارف إيه لازمة التأمين الصحي أساساً , وإيه وجه الإجبار فيه.. ؟؟؟؟!!!!
منير :            إزاي بأة يا سامح , التأمين الصحي مفيد جداً , يمكن مش ليك , بس لناس تانية مهم جداً
سامح :          يعني أنت عايز تقولي إن النظارة اللي هتعملها برة جودتها نفس جودة نظارة التأمين الصحي .. ؟؟؟؟
منير :            أكيد لأ
سامح :          طيب .

لفت شرود " منير " نظر " سامح " , وأدرك الصديق المخضرم ما يجيش به صدر صديقه , فحرره من عبث السؤال , وأطلق اللحظات تفترس ذكريات " منير " وتعبث بقلبه , ولما انتهى الوقت من اغتصاب خيال منير المنهك , وَجَمَ حين تسمرت عينا سامح في حدقتيه .

منير :            ( بتردد ) على فكرة , انا سمعت أخبار مش كويسة
سامح :                   عن مين .. ؟؟؟؟
منير :            ..............................
سامح :                   ..............................
منير :            عن .... عن ......
سامح :          ..............................
منير :            ( بتردد واضح ) عن ..  رانيا
سامح :                   آآآآآآآآآآه
منير :            ( بشغف )إيه اللي حصل ... ؟؟؟؟
سامح :                   وانت مالك ... ؟؟؟؟؟
منير :            ( يضحك ضحكة مصطنعة ) لا بجد .... إيه اللي حصل ... ؟؟؟؟
سامح :                   بجد انت مالك ... بتسأل ليه .. ؟؟؟
منير :            يا جدع عايز اعرف بس , مش عشان حاجة
سامح :                   أبداً يا سيدي , تعبت شوية وعملت عملية خطير إلى حدٍ ما , بس دلوقتي بقت كويسة  ( صمت طويل )  يا منير محدش فاهمك قدي , وكفاياك بقة .
منير :            يا بني مفيش حاجة .. أنا بس كنت بتطمن

ساد الصمت أرجاء الغرفة بعد أن انصرف معظم رواد المكان , فقاما , وقررا التسكع قليلاً , وكان بداخل كل منهم أطنان من الكلام , وضن كل منهم على الآخر بكلمة واحدة , وليس هذا غريباً , فقد ضن كل منهم على نفسه بالحديث , أفيواجهون بعضهم البعض ... !!!!


==================

تزوج " سامح " , وأنجب طفلاً , وتزوج معظم أصدقائهم , وها هو " محمد"  - عدو الزواج اللدود - يخرج عن كبرياء الرفض , ويمتثل لقانون المرأة , أو قانون الطبيعة ,  ويقرر الزواج , وقد أدرك " منير " كل هذا , واستوعبه جيداً , وقرر هو أيضاً الزواج , فتقدم لخطبة إحدى قريباته التي أحبته بجنون من قديم . قرأ " منير " المستقبل بوضوح , وتيقن من أن يوماً يقف فيه وحيداً هو قادم ولا ريب , لذلك فقد أسرع بالارتباط , ولم يجد أنسب من " سلوى "  إبنة خالته لتصلح له زوجاً .
منير .... شاب في الثلاثين من عمره , صارعته مشاعره فصرعته , حاول الانتقام من حواء , فغازلها , ومارس معها كل فنون الهوى , وأخضعها , ولم تكد تفلت منه لحظة إلا ومثل فيها بمشاعرها , إنه بالطبع لا يدرك كل ذلك , وإلا فإنه سيحجم على الفور عن صراعه مع حواء اللعينة , أهل سيحجم .... ؟؟!!!! لا أعتقد , إنه يمارس لعبته رغماً عنه , لقد تمرس الأمر حتى صار إدماناً , أو بالأحرى أصبح انتهاكه لمشاعر المرأة صنماً أقامه , وعبده ... وكأنه صنع آلة حرب فتاكة دون أن يصنع لها مكابح , فراح هو ضحيتها .
منير ....  قادر دوماً على اجتذاب المرأة , أي مرأة , ولكنه لم يتعلم أبداً طريقة إبعادها .. !!!
منير .... على استعداد دائم لبذل المشاعر إرضاءً لغروره ورغبته , ذلك الغرور الذي يَرضى حين يراه بمقلتيه في عيون حواء , وتلك الرغبة في إخماد لهب الحب المتراكم تلالاً جاثمة على صدره .
منير ....  فقد الإحساس بالخط الفاصل بين هزل اللهو مع حواء الفتاة وجد الحياة مع حواء الزوجة .
منير ....  وجد في الزواج نهاية .. وليست بداية
منير ....  توجه لمحراب الزواج مبتهلاً لآلهته أن تمنحه السكينة والهدوء والاستقرار .
منير .... أنهكته المعارك , وخضبت جسده بدموع الملتاعات , ولم يعد منتصراً منتشياً بأكاليل الورود , بل عاد مجللاً بالخزي والفشل , متوجاً بنبراس الشوك يدمى عقله قبل صدره .
منير .... فكر في نفسه فقط حين قرر الزواج , ولم يفكر في الآخر الذي سيشاركه كل شئ , أيقن أنه بمعسول الحديث وحسن المعاشرة وطيب السلوك سيرضي حواء الزوجة , ولكنه لا يعلم أن حواء الزوجة غير حواء الحبيبة

سامح :          على فكرة يا منير , إنت ممكن تزيف مشاعرك مع أي حد , وهيصدق , لكن مش ممكن تزيف مشاعرك مع مراتك وتصدقك
منير :            ( وقد صدمته ملاحظة سامح التي جاءت بعد صمت طويل تخللته الأفكار ) إإ.. إ ... إنت بتقول إيه .. أنا مش فاهم حاجة ..؟؟؟؟
سامح :          لأ .. إنت فاهم أنا أقصد إيه .. أوعي تفتكر إنك تقدر تضحك على مراتك , حتى لو مش بتحبك .. الزوجة عندها حاسة مش موجودة عند أي بنت, بتقدر تعرف جوزها على حقيقته , من جوة , على الأقل بتقدر تعرف مشاعره ناحيتها إيه ... مسكينة ..!!!! ولو اكتشفت إنه مابيحبهاش بتحط جزمة فـ بؤها وحجر على قلبها طول العمر , أصل هتقوله إيه .. ؟؟؟ حبني ..!!!!؟؟؟ , مستحيل , كرامتها أهم عندها من مشاعرها .
منير :            ( وكأنه لم يفهم ) أنا مش فاهم انت بتتكلم عن إيه يا سامح .
سامح :          أنا متأكد إنك فاهم , وع العموم , إنت محتاج تفهم نفسك , مش تفهمني أنا

=======================

وصل الصديقان إلى مفترق الطريق , فتبادلا العناق , وراح منير في طريقه نحو المنزل , تثقله الذكريات بأكثر ما يثقله الفكر , وراحت الأطياف تمر من حوله , أطياف الابتسامات , والضحكات , والتنهدات , والدمعات , وحلو الكلمات .... ووسط كل الأطياف بدا له طيفان وكأنهم الواقع مجسداً .... طيفان لا يملك منهما فراراً .... لازم الطيفان دوماً قلبه وعقله
طيف سلوى
وطيف رانيا
وتصدح في أذنيه كلمات سامح ينوء تحت ثقلهما

منير , فقد الإحساس بالخط الفاصل بين هزل اللهو مع حواء الفتاة وجد الحياة مع حواء الزوجة , ووجد في الزواج نهاية .. وليست بداية

أحمد عبد الحي شلبي
الإثنين
13 – 9 - 2010



حبيبة

اتولدت حبيبة في وقت من الأوقات وفـ مكان قريب من هنا ... اتولدت حبيبة من أم شبهها كتييير .. وأب .. مايهمناش نعرفه ... اتولدت حبيبة ... والدكتور غريب .. من أرض غريبة


كانت البداية عندما ولدت حبيبة .. وبدت – بعد ضعفها ووهنها في طفولتها – شابة , فتية , يغري جمالها الرجال والولدان , ويغري ضعفها الأبطال والشجعان , وما أن شبت حبيبة , وبرزت مفاتنها للمبصر والمستبصر حتى تهافت على خطبتها الكثيرين من أبناء الحي , ولكن .. لا يجدي الضعف على الضعف , أو الوهن على الوهن .. فخطابها لن يزيدوها سوى ضعفاً ووهناً , وقد عانت كثيراً , حبيبة , من ألم الضعف أمام الأقوياء . ولما رأى الغرباء عن بلدتها ما أحاط بها من وهن , ووهن أهلها , قرروا التقدم لخطبتها .. إنهم يعرفون حبيبة جيداً , ويعرفون من قديم ما وهبها الله من مفاتن ومحاسن , وكانت لهم كنزاً لا ينبغي التفريط فيه , ووجدوا في خطبتها فرصة للتمتع بها , وبجمالها .. مسكينة حبيبة .. !!! خلقت بجمال أخاذ احتوى جسدها وروحها , ولم ترزق بعضلة واحدة في هذا الجسد الفتان , وإن كانت روحها تصمد وتصلب بقوة الجبال والسماوات .

          أبت حبيبة خطبة كل الغرباء , كما أبت من قبل خطبة الضعفاء .. ولكن .. ليس كل الرفض يجدي .. أن ترفضي الضعيف فهو الأمر الهين .. أما أن ترفضي الجبار فله من النتائج ما لا تحمد عقباه .

          كانت حبيبة تنتظر بلهفة أحد أبناء بلدتها الأقوياء لتحيا مطمئنة في كنفه وتحت حنوه ورعايته , إلا أن بلدتها لم تنجب بعد الأقوياء , اكتفت حبيبة بالانتظار , انتظار ذلك الرجل الذي تفهمه ويدركها , ولن يدركها سوى من أحبها بلا سبب , وبلا مطمع .. من يحب روحها القوية وليس جسدها الغني , رفضت حبيبة كل الغرباء .. لأنهم غرباء عنها , عن روحها وعقلها وقلبها , وليس لأنهم غرباء عن حيها وبلدها ولغتها , ولكن حبيبة ضعيفة ...

بم يفيد رفضها مع ضعفها ... !!!!؟؟؟

          وفي إحدى الليالي , داهم منزل حبيبة غرباء من خارج الحي , أدركت ذلك من ملبسهم ولغتهم , عاثوا في المنزل خراباً , فهدموا ما هدموا , وأبقوا على حبيبة , جسداً بلا حراك , استغاثت حبيبة بصوتها الحنون الذي لم يعتد الصراخ , إلا أن أبناء الحي كانوا في سباتهم , كعادتهم , حاولت الدفاع عن جسدها البكر بكل قوتها , ولا فائدة ... إن الغرباء متمرسون في الاغتصاب والنهب , ولن تجدي محاولاتك أيتها الضعيفة أمام جبروت القوي الظالم .

استسلمت حبيبة

وتناوب جسدها أفراد تلك العصابة , وزعيمهم " مرزوق " , ذلك الكاسر الجبار , وكانت حبيبة تدعو الله متضرعة أن ينتهي الليل الطويل , ليمضي الغاصب في طريقه ويتركها جريحة الجسد والفؤاد ... تأخر النهار كثيراً ... ما أصعب أن تتحمل الآلام على أمل الانتظار , تنتظر , ولا تزال هكذا .. بلا نهاية .

وأخيراً .. لاح الفجر

ولكن الزوار الملاعين لم يذهبوا ... عجيبة ... ألا يطهر النهار أوساخ كوابيس الليل .. ؟؟؟ يبدو أن الأمر غير ذلك يا حبيبة , فقد أفاقت على منزلها وقد تحول إلى مسكن لهؤلاء الغرباء , يبدو أنهم سيتخذون بيتي مرتعاً لنجاستهم طيلة حياتي .. يا ويلي ... !!!!

          طال الأمد , وحبيبة .. سيدة العالم .. تصبح خادمته , ومحظية الأسياد الجدد . تجوب حبيبة طرقات بلدتها باحثة عن المنقذ , متضرعة للضعفاء , تحتمي في خيالها المنهك بوهم يصول ويجول , وهم أن تجد رجلها المنتظر .

          من أطراف البلدة , كان هناك بيت بسيط , لأناس تعودوا الفقر وشربوه مع الماء العكر , ومن أهل البيت , شاب يافع , تابع – كأهل القرية – مأساة حبيبة , وتمنى لو كان منقذها , كان اسمه " عابد " , وكان كأهل البلدة , يتوق كل نهار إلى طرد مرزوق وعصابته من دياره وديار أهله , إلا أنه تميز عن أهله بقوته وبأسه وعقله النابه , لذلك , كان من اليسير عليه أن يجد السبل ويتذرع الوسائل التي تمكنه من الظفر بإنقاذ حبيبة , وقد كان , ودخل عابد بذكائه وقوته مع بعض أهالي البلدة إلى دار حبيبة وسكانها الغرباء , وأسر زعيمهم " مرزوق " وسجنه في غرفة من غرف الدار , إلا أن الخيانة التي لا ينجو من دنسها أي شعب غيرت مجرى الأمور ... فقد استطاع الأسير مرزوق أن يفلت من أسره , وأن يهرول إلى بلدة مجاورة , لها زعيم , هو أصل المكر ومبدعه , استنجد مرزوق بـ " آدم " , زعيم هذه القرية , ولم تكن مصادفة أن يلجأ مرزوق لآدم , فهو يعلم جيداً ذلك الطموح الذي يراوده من قديم حول حبيبة , ويعرف نهمه , وطمعه , وهذا ما جعله يتجه مباشرة صوبه دون تفكير , وهو يعلم أنه بعد التجاءه إليه سيشاركه حبيبة , إن لم يأخذها منه كليةً , إلا أنه لا يأبه , فحبيبة لم تكن له من البداية .. ليس غريباً أن يضحي النحات بتمثاله مادام لم يكابد العناء في صنعه ... !!!

          غمرت حبيبة فرحة السنين المتراكمة , تلك السنين التي عاشتها في مهانة لم تعتد عليها , فهي الأميرة الحرة المدللة , وقد عاد لها دلالها واسترجعت حريتها على يد عابد البار , ولم تكد حبيبة تغفو في أحضان حبيبها عابد , بعد أن أعلنوا زواجهما ليلة البارحة , حتى هاجم في الليل " آدم " وعصابته منزل حبيبة , وفي الخلف , يقف مرزوق متشفياً في عابد , الذي أمر مرزوق بنفيه خارج القرية .. حتى مات في منفاه كمداً , وعادت حبيبة للاغتصاب من الخنزير الآدمي مرزوق , الذي قبل أن يشاركه آدم في حبيبة .

          تمر السنين , ولا تزال حبيبة , رغم كر الأيام السوداء عليها , شابة , جميلة , فاتنة , لم ينتقص من جمال جسدها شئ , وإن كانت روحها قد أصيبت بطعنة موت عابد , الذي لم تهنأ به لحظات , وفي الوقت الذي تذبل فيه روح الحبيبة , حبيبة , كانت ثمة زهوراً شائكة تينع في طرقات البلدة ....

          " صفوان " , كان طفلاً حين تردد على مسامعه أنباء البائسة " حبيبة " , حين كان والده وجيرانه يتسامرون ليلاً , همساً , خوفاً , حول مأساة ابنة قريتهم التي يقفون أمامها مطأطي الرأس خجلاً , إنهم الضعفاء ... في هذه الأجواء , صعد صفوان درج المعرفة , وتشبع بحقد عظيم وبغض كبير لهؤلاء الغاصبين , وقرر وهو غلام صغير مع البعض من أقرانه أن يتحملوا عبء تحرير ابنة بلدتهم , التي يكلل أسرها هاماتهم بالعار بين جيرانهم .

          سافر صفوان وزملائه لكل بلدان الدنيا , ليتعلم ... ليتعلم كيف يبني عقله وجسده وروحه , وعاد ليغترف من تراب شوارع بلدته الذل الذي يزوده بالحقد الذي ينتج الأمل والعزيمة , ولم ييأس , وكتب على جدران بيوت البلدة كلها " الحرية لحبيبة " عله يفيق أهله من غفوتهم الطويلة . وذات ليلة , قرر صفوان وزملائه القدر , ولم يدعوا القدر يقررهم , كما اعتادوا , وهبوا لنجدة حبيبة , وأزاحوا مرزوق وآدم من بيتها , وأخرجوهم من قريتهم إلى حيث كانوا , وارتمت حبيبة في أحضان فتاها  الجديد  صفوان , وكانت ليلة العرس شاهداً على صنع الأقدار .

          إن معاناة صفوان من الضعف في أهله جعله يشرع في جلب السلاح من القرى المجاورة , آملاً بذلك في خلق شوكة صلبة تردع كل من يحاول الاقتراب من زوجته , لقد تعلم صفوان درساً من سابقه عابد , وانتقى من بين زملائه ورفقاء كفاحه ضد أدم ومزوق من يقوم بحمايته وحماية حبيبة , وكان أقربهم " بشير " , الذي تهلل وجهه بالغبطة حين أوكل إليه صديقه صفوان مهمة الدفاع عن منزل حبيبة , وعن حبيبة نفسها , وراح بشير يزهو بمنصبه الجديد الجليل , وقد غاب عن خاطر صفوان وقتها أن حبيبة لها من الغواية ما يفوق بكثير حماية بشير لها , كما راح من باله أن بشير نفسه إنسان , وليس من الملائكة , وقد وقع المحظور .

          ففي ليلة غبراء , حيث كان صفوان في رحلة له إلى قرية مجاورة , دخل بشير منزل حبيبة , وفي مخدع صديقه , تناول حبيبة البائسة بشتى ألوان العذاب , قبل أن ينتهك جسدها الذي لم يكد يتعافى من فعل السنين والغاصبين . كان بشير سادياً بحق .

          عاد صفوان من سفره , وعلم بما حدث لزوجته , فزمجر وتوعد بشير , وحاول عقابه ففشل , طبعاً , فشل بعد أصبحت مقدرات الأمور كلها بيد بشير , وراحت تهديداته أدراج الرياح , فأصبح صفوان مجرد لسان , بينما تردد بشير بتبجح على غرفة حبيبة , وفي وجود زوجها الضعيف دون أدنى مقاومة .

          عادت " سهام " من سفرها الطويل , فزادت من آلام حبيبة , جارتها القديمة ... كانت سهام تمقت حبيبة مقتاً يفوق الخيال , وحاولت قديماً أن تكسر شوكتها بأن تعبث بجمالها ففشلت , فعملت على تحريك مرزوق وآدم وغيرهم للنيل من حبيبة , وإن كانت قد نجحت , فقد كان وجود صفوان كفيلاً بردع الجارة الماكرة عن حيلها الخبيثة , أما وقد استتب الأمر لبشير فقد كان لزاماً عليه لإحكام قبضته على حبيبة وزوجها المهترئ أن يستدعي سهام لتقطن ثانية بجانب حبيبة .

          ولا تزال حبيبة تأن من ضعف صفوان , وجشع بشير , وغيرة سهام , وطموح آدم , ولا نزال نكتب بدموعنا على صفحة جسدها الممدد سطور الحلم , ولا يزال الواقع بمرارته يمحو ما كتبناه , فما اكتمل سطر حتى الآن ....

          حبيبة , أسطورة الألم عبر كل الأزمان , ذاقت ويلات الكمد من الغرباء وأقرب الأقربين , من لها الآن ... ؟؟؟؟؟

                                                                                      أحمد عبد الحي شلبي
                                                                                                الإثنين
                                                                                         15 – 4 - 2002

حاتم

يوم مرهق .. بدأ بفزعة تقليدية تتكرر يومياً على صوت المنبه مروراً بالتعثر في سجادة غرفة النوم وصولاً إلى احتساء كوب الشاي دون سكر , فقد نسيت " هدى " الخادمة أن تشتري التموين في بداية الشهر , وظل اليوم عنيداً إلى أن وصل " حاتم " إلى مصلحة الأحوال المدنية بالعباسية .

          مبنى المصلحة في نظر حاتم هو القدر الأعور الذي لا يرى سوى من منظور واحد ورؤية وحيدة , ويتيقن من ذلك يومياً حين يستمع بملأ أذنيه سباباً وشتائم من جميع الأصناف والألوان , بالطبع من المواطنين المترددين على المصلحة بالمئات يومياً , وليس من الموظفين الذين اعتادوا سماع هذه الشتائم , القدر الأعور الذي يدركه حاتم بجلاء هو تلك المفارقة التي تنبلج أمامه كل دقيقة في حياته ... فهو كموظف في القطاع العام  وفي إحدى المصالح الحكومية القحة يعامله المواطنين نزلاء المصلحة على أنه سبب المتاعب والروتين اللعين الذي يعانون ألمه كلما أوقعت بهم الظروف في مثل هذه المواقف , وبالمثل .. يعامل المواطنين الشرفاء كل زملائه بنفس الطريقة .. على أن الفارق يكمن في اختباء حاتم وراء الجدران , فهو يعمل كمراجع لبيانات المواطنين المتقدمين لتجديد أو استصدار بطاقات الرقم القومي , ويقوم بتحديثها ونقلها إلى الشبكة العامة المتصلة بباقي المصالح الحكومية في القطر المصري , لذلك فهو بمنأى عن الاحتكاك المباشر بالسادة المواطنين , وإن كان سبابهم يشمل موظفي المصلحة جميعاً بدءاً من رئيس المصلحة وصولاً إلى " رضا " الساعي المرتشي , المفارقة هنا أن كل هؤلاء الحانقين الذين يسبون موظفي الحكومة هم في أغلبهم من موظفي الحكومة ... !!!!!

          لا تبدو وظيفة حاتم مرهقة إلى حد ما , إلا أنه يشعر دوماً بأنه لا فارق بينه وبين الحاسب الذي يجلس أمامه , ألتصقت يداه بلوحة المفاتيح والتصقت روحه بذلك القدر الأعور .

          وقف حاتم على طريق صلاح سالم أمام محطة الأتوبيس منتظراً الميكروباص ليقله إلى ميدان العباسية , ويشاء القدر الأعور أن تقع عيناه على طائرة ضخمة وضعت بفناء المبنى المخصص لعرض تفاصيل حرب أكتوبر , والذي يسمى " البانوراما " , وكان القدر أعوراً هنا بحق , فوراء البانوراما التي تخلد ذكرى النصر العظيم والرجال الأقوياء والزمن المهيب يقع مبنى " مركز البولينج الدولي " الذي يتردد عليه شباب مصر الغالية , أبناء وأحفاد أبطال أكتوبر العظام , شباب مصر الذين تتدلى الحلي من أعناقهم ومعاصمهم وتثور شعورهم فتفقد التمييز بين جنسيهم , يدخلون إلى مركز البولينج من طريق محازٍ لسور البانوراما , فتقع أنظارهم على الجندي الذي يرفع سلاحه عالياً فوق أرض سيناء بعيد النصر منحوتاً على جدران المبنى , فتنطلق السخريات والضحكات تطعن الجندي المرسوم على الجدار بذخيرة تؤلم قلبه , لا جسده .. إن حاتم لا يتخيل , لأن ما جال بذاكرته واقع حدث بالفعل , فقد كان حاتم من هؤلاء الشباب الذين يرتادون مركز البولينج , وكثيراً ما أضحك رفقائه من الشباب والفتيات بقفشاته الماكرة حول الحرب والمعدات المبعثرة في فناء البانوراما , وطالما أنهكت نكاته صدر ذلك الجندي المنحزت على جدار المبنى , مضى وقت طويل على تلك الأحداث , لم يدخل حاتم مركز البولينج الدولي منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام , ولا يزال يذكر جيداً المرة الأخيرة التي احتسى بها فنجان القهوة بصحبة ....

 وصل الميكروباص أخيراً  وبدأ اليوم .

          إن شعور موظف الحكومة الذي يتلقى صيحات التذمر من المواطنين هو شعور مؤلم , وكاد حاتم أن يقدم استقالته بعد تعيينه بشهور قليلة لأنه لم يعد يحتمل ألم ومعاناة هؤلاء التعساء الذين ألقت بهم المقادير في أتون الروتين المصري , وعدل عن قراره بعد أن أخمد الأستاذ " صالح " نيرانه المتأججة بجملتان , فبعد ضحك صالح من السبب الذي يقدمه حاتم في استقالته التي عرضها عليه قبل تقديمها لمديره المباشر , قال الأستاذ صالح " هنعملهم إيه بس يا حاتم , ما هما اللي كتير " , وبالفعل , عدل حاتم عن تقديم استقالته وخصوصاً بعد أن ذاق الويلات في رحلة تجديد رخصة سيارته بالشيخ زايد , وأدرك وقتها أن الوباء ليس حكراً على العباسة فقط وإنما قد تعدى المرحلة السادسة ليضرب بسمومه في أرجاء المحروسة .

          إنطلق حاتم في ردهات المبنى متجهاً إلى مكتبه الذي يتقاسمه مع زميلته الآنسة نورهان , كلاهما يعمل بنفس الوظيفة , وبين " السلام عليكم " وبين " صباح الخير " لم تخرج من فمه عبارات غيرها , العجيب في مصر أن كلمات التحية لا تصحبها في العالب أية ابتسامات , على عكس المتعارف عليه في سائر أرجاء الأرض , فإلقاء التحية هو تعبير عن السلام أو الخير  وكلاهما يستلزم بالضرورة وجهاً بشوشاً وملامح ناضرة بالبسمة , أما أن تلقي تحية الخير والسلام بعبوس تلقائي وتجهم لا إرادي فذلك هو القدر الأعور .. ثانية .

          امتطى حاتم صهوة الحاسب  وبدأ بمراجعة البيانات التي وصلت منذ يومين من سجل الأحوال المدنية بمنطقة الهرم , وعلى الرغم من جود مصلحة للأحوال المدنية بشارع الهرم إلا أن الإدارة الرئيسية بالعباسية هي كعبة المراجعات لكل مواطن مصري
" محمد سعيد ابراهيم الميرغني .. 36 على 1198 , ذكر , مسلم , متزوج  حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة ... تمام ... أميرة فتحى كامل نور الدين .. 50 على 613 .. أنثى , مسلمة , متزوجة .. ربة منزل ... تمام أوي .... سعاد بيومي عبد النور ... "
قطعت سلسلة مراجعات حاتم صرخة أنثوية ناعمة من نورهان , التي تروعها دوماً تلك الطريقة التي يعمل بها حاتم , فهو لا يستطيع ان يعمل في صمت , ينطق بكل بيانات البطاقة الظاهرة أمامه على شاشة الحاسب مضاهياً إياها بالبيانات المدونة بالأوراق , وعلى النقيض  تنزعج نورهان من تلك " الدوشة " التي يسببها لها حاتم , فتنهره صبيحة كل يوم , فيقابل غضبها بابتسامة .. ثم لا يلبث أن يعود لمنهجه " التجويدي " في مراجعة البيانات , وتنهره نورهان , وهكذا ,, حتى ينقضي يوم العمل . دخل " عم رضا " بالقهوة , وضعها أمام حاتم وانصرف .

          بلغة الكمبيوتر , يدرك حاتم جيداً أن لحظات العمل هي في الأصل لحظة واحدة , ولكن أخذت منها آلاف النسخ طبق الأصل وألصقت متتابعة لتنعقد في سلسلة طويلة اسمها " وقت العمل " , وبهذا المنطق , لا يمكن أن تجد فارقاً جوهرياً , أو حتى عرضياً بين أول اليوم وآخره . أضف إلى ذلك أن عمل حاتم ليس موسمياً , فمن ذا الذي يستطيع أن يحيا دون اللجوء إلى مصلحة الأحوال المدنية , البطاقة الشخصية الهائلة للمحروسة , فكل أيام العمل مزدحمة , وقلما انتهى يوم عمل دون أن يترك حاتم وراءه أعمالاً مؤجلة للغد , وعلى الرغم من ذلك , لم يشعر حاتم قط بالإرهاق , إنما كان الملل هو الشبح المطل دوماً من جدران المكان .

          الساعة الرابعة عصراً , أوشك اليوم على الانتهاء , دون أن ينظر حاتم للساعة أدرك أن اليوم قارب النهاية , خفوت الضجة المنبعثة من خلف الجدران , وبروز أصوات العاملين وهمهماتهم وضحكاتهم كلها علامات بداية نهاية يوم العمل , ولحاتم وجهة نظر في الوقت الممتد من الساعة الرابعة إلى الساعة الخامسة , ففي كل مرة يخرج فيها من غرفته في تلك الساعة يجد وجوه الموظفين متهللة , منفكة الأسارير , وكأن خيراً عظيماً بانتظارهم .. بالطبع , خيراً عظيماً , إن النجاة من أنياب الروتين القاتل الفوضى المدمرة والصخب الغوغائي لهو بالفعل يوم عيد , وكأن الخامسة من مساء كل يوم هو عيد مبارك , ولكنه عيد خاص أشبه بأعياد الميلاد الشخصية , حيث لا يكترث به سوى صاحبه , لذلك , فلا عجب أن نجد العمل في المصلحة مشرفاً على الموت , بينما العاملين بالمصلحة بصدد ميلاداً جديداً . يبدو أن القدر الأعور لا يكف عن العبث بمقاديرنا .

أحمد عبد الحي شلبي
الأحد
19 – 4 - 2009

في الدكان

 أغرب اللحظات التي قد يعيشها الإنسان هي لحظات التقمص , وحين نتحدث عن التقمص فإننا نتحدث , دون حرج , عن صفة أصيلة في الإنسان المصري . فإذا كان رواد أدب الرحلات يتعرضون في أعمالهم للصفات المميزة للأمة الفلانية , أو المزايا والعيوب التي تكتنف شخصية الشعب الفلاني , فإننا ننفرد – كمصريين – بصفة غريبة لا ينازعنا فيها سوى أعضاء الفرق التمثيلية من شتى بقاع الأرض . بدلاً من البحث في المعاجم والقواميس ودوائر المعارف عن معنى كلمة التقمص , وبدلاً من استشارة الإطباء النفسيين والمحللين الاجتماعيين عن مدلول حالة التقمص فإننا سنتعامل معها باعتبارها تلك الحالة التي يرتدي فيها الشخص رداءاً غير ردائه ويتعامل بشكل مغاير تماماً لطبيعته الأصلية . ومن هذا المنطلق , سيكون من الضروري استعراض الأمثلة التي توضح ما نروم إليه , دون كلفة أو تلفيق .

في مساء صيفي مفعم بالحياة , على الأقل في نظري , كان تراب الشارع أمام الدكان مبللاً , وفي مناطق أخرى " مطيناً " بعد أن قام صاحب المنزل الذي يقع تحته الدكان برش الشارع من خلال خرطوم متصل بالصنبور المغروس على الجدار الخارجي للدكان . وكنت أتحين الفرصة التي أستمتع فيها بالجلوس أمام الدكان  على الكرسي البلاستيكي وأنا أتصفح الجرائد . ولما كان الشارع يصطخب بكافة ألوان الضجيج فإن التركيز اللازم لمتابعة أي قراءة كان يحتضر تدريجياً , ولم تفلح رشفات القهوة ودخان السجائر في إيقاظ الذهن من ذلك السبات . لذلك , فقد كنت أصطنع الانهماك في القراءة بينما كانت مقلتي تصطحب الذاهب والعائد تساندها في تحركاتها أذني ملتقطة كل الأصوات والهمهمات والصيحات .

حضرت سيدة في الأربعين من عمرها , أو هكذا تبدو , لاستلام صور ابنيها , وكانت أن حضرت قبل يومين لتصورهما بملابسهما الجديدة وأصرت على أن تكون الصور من المقاس الكبير , ودون أن تسأل على الثمن , كما اعتدت غالباً . ولجت المكان , وتبعتها , جلست على الكرسي أمام المكتب , وأعطيتها الصور بعد أن أعطتني إيصال الاستلام . فرحت كثيراً بالصور , أو بالأحرى فرحت بابنيها , شكرتني وأثنت على براعتي في تجميل صورة الولدين , حتى باتا مغايرين للأصل . وحين سألتني على السعر قلت لها أن تكلفتهما خمس وعشرون جنيهاً .

في مصر , يعاني الأهالي من مرض الشك , والتشكك الدائم في نية الآخرين , وخصوصاً فيما يتعلق بعمليات البيع والشراء , ودون التعرض لأسباب هذا المرض فسنكتفي بضرب بعض الأمثلة التي تلقي الضوء على المشكلة . ففي أحد المرات , كنت بصحبة صديق لي حينما قرر بيع جهاز " MP4 " الخاص به لمروره بضائقة مالية , كان للجهاز شكل غريب يوحي بارتفاع سعره , وهذا ما تأكدت منه حين أخبرني صديقي بأنه اشتراه " بكرتونته " منذ شهرين بأربعمائة جنيه . وأثناء جلوسنا على المقهى أتى أحد معارف هذا الصديق الذي أخبره بنيته في بيع الجهاز الخاص به . تناول الوافد الجهاز وأخذ يقلبه بين كفيه مصطنعاً تفحصه , ثم ناوله لصديقي الذي بدت على ملامحه معالم الاستياء والضجر , ثم سأله السؤال التقليدي " على كام ده ... ؟؟؟؟ " أخبره صديقي بثمن الجهاز الحقيقي , ثم أخبره بالثمن الذي يريده بالمقابل , ورد عليه الآخر بكلمة يبدو أنها كانت على لسانه قبل أن ينطق صديقي بالسعر .جاء عامل المقهى ليقوم بتبديل حجر الشيشة لي , فطلبت منه إحضار كوباً من الينسون  مما حال بيني وبين  سماع السعر الذي أخبره به صديقي , ولكني سمعت الآخر يقول له بلهجة استنكار : " كتير " , اعتذر صديقي عن إتمام عملية البيع تحت إلحاح المشتري بتخفيض السعر قليلاً . ولما قام الآخر مبتعداً بعد إلقائه تحية الوداع أخذتني دهشة عظيمة حين أخبرني صديقي بالثمن الذي عرضه علي الشاب وهو ستون جنيهاً ... !!!!!!!

موقف آخر لم أنساه حين التمس أحدهم من الطبيب الصيدلي تخفيضاً على الأدوية التي اشتراها معللاً التماسه هذا بأنه أحد الزبائن دائمي التردد على الصيدلية .

وآخر طلب من سائق الميكروباص تخفيض الأجرة لأنه ركب ومعه أربعة أنفار , مما يستلزم عملية " خصم على الكميات الكبيرة " كما هو الحال في بعض الصفقات التجارية .

كل هذه المواقف أكدت لي أنه إذا عُرض على أحد المصريين شراء فيلا في الساحل الشمالي بسعر خمسون قرشاً سيتشكك في الأمر , وقد يرفض العرض الخيالي حتى ولو كانت مستندات البيع والتسجيل حاضرة وواقعية .

لذلك , فقد اعتدت على أمور " الفصال " وفنونها وأساليبها , وتعلمت في مدرسة السوق المصري طرائق الهروب منها والتملص من براثنها , بل وأبدعت حين ابتكرت أساليبً خاصة تمكنني من فرض السعر المناسب دون إنقاص قرش واحد دون أن يتسبب ذلك في إثارة استياء العميل وضجره . وبناءاً عليه , فقد كان رد فعل السيدة حول ارتفاع السعر نذيراً ببدء معركة كلامية شرسة أستنفذ فيها كل فنون المداهنة والتملق والعبوس والابتسام بغية تحصيل المبلغ كاملاً .

للحق , لم تكن المعركة ضارية , بل إن السيدة أقرت بجودة الصور واستحقاقها للنقود , ولكن الأمر قد تحول إلى مسار آخر حين أخبرتني بأنها لم تكن تعلم بهذا السعر , رغم تدوينه بالإيصال , وأنها أحضرت معها فقط عشرون جنيهاً . ولأن خبرتي البسيطة السابقة علمتني بأن تسليم السلعة كاملة لابد وأن يقابله تسليم الثمن كاملاً فقد أبيت بشدة , وتركت لها فرصة الذهاب إلى المنزل لإحضار بقية المبلغ التافه , أو إرساله مع أحد أبنائها , إلا أن محاولات التقريب كلها باءت بالفشل حتى كدنا نصل في جدلنا العقيم الذي امتد لعشرون دقيقة إلى جدار صلد .

كان الوقت المنصرم في النقاش والجهد المبذول فيه دافعاً قوياً للإصرار على قبض الثمن كاملاً دون مراعاة لأية اعتبارات أو توسلات , وشعرت بأن الرأسمالي القابع في روح التاجر قد خرج من مكمنه وسيطر كليةً على جسدي وعقلي وروحي . تخلل النقاش الذي لا يزال مشبعاً بروحاً ودية بعض الضجر , مما حدا بي إلى ترك المكتب والدخول إلى صالة التصوير , فجلست على منضدة الكمبيوتر متصنعاً العمل , وبدت تلك إشارة مني للسيدة بالموافقة الذي يكتنفها الامتعاض .

كنت أتوقع أن تخرج السيدة من المكان وقد ظفرت أخيراً بموافقتي على العشرون جنيهاً في ظل ضجري واستيائي , ولكنها وقفت أمام باب صالة التصوير وبدأت جولة جديدة من الإلحاح , ولكنه إلحاح على مطلب آخر غير التخفيض , إلحاح على محو آثار الضجر فوق وجهي , وذلك من خلال إبداء علامات الرضا والمسامحة في المبلغ المتبقي . يبدو أنها كانت تخشى عقاب الله , فقررت ألا تمضي قبل تظفر بموافقتي الميمونة على هذا التخفيض دون استياء .

وجدت نفسي أتسائل رغماً عني بعد رحيلها عن رغبتها القوية وإلحاحها المستميت من أجل محو أمارات الضجر التي غمرت انفعالاتي , ولم أجد تفسيراً لذلك سوى إحساسها بأن استحواذها على شئ دون رضا صاحبها إنما يشبه السرقة والاستيلاء , وهذا الإحساس هو ما دفعها للاستماتة من أجل نيل موافقتي المشبعة بالرضا والتسامح . قد تكون تلك الطريقة في التفكير من مخلفات أخلاق القرية المصرية , وقد تكون من علامات الخشية من العقاب الأخروي , وقد تكون خوفاً على الوضع الاجتماعي .

إذن , فالدوافع كثيرة , ولكن التصرف جاء نبيلاً بشكل ملفت , مما حدا بي إلى عقد مقارنة بين موقف تلك السيدة وبين تصرفات الكثيرين ممن يستحلون أموال الغير بالباطل ودون وجه حق , لصوص هذا الزمان , سارقي الأموال والأحلام .

أحمد عبد الحي شلبي
الأربعاء
20 – 8 - 2008

المهرجان ( 1 )

في إحدى فصول مدرسة المهندس / احمد الشيمي الابتدائية الحكومية , بدأت فعاليات مهرجان الاقتراع العام لانتخابات مجلس الشعب لعام 2010 في جمهورية مصر العربية , وفي الثامنة والنصف صباحاً بدأ الحاج " على عبد الرحمن " رحلته الانتخابية المعتاده كل خمس سنوات إن لم تقع أية انتخابات تكميلية خلالها , بدأ بمدرسة المهندس الشيمي , وانطلق يلقى التحيات على المدرسين وأمناء الشرطة الذين انشغلوا في احتساء الشاي وتناول بعض السندوتشات , على الرغم من بدأ فعاليات المهرجان رسمياً , وها هو الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " - كما يحب أن يُطرح اسمه - يلحق بالحاج " على عبد الرحمن " قبيل صعوده الدرجه الأولى من السلم المؤدي إلى لجنته التي عرف مكانها مسبقاً , صاح الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " منادياً على الحاج " على عبد الرحمن " ملوحاً له بأن ينتظره , تهلل الحاج " على " لرؤية الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " الذي اختزن  يومه الوحيد المتبقى من رصيد أجازاته لهذا اليوم , بعد أن استنفذ رصيده بالكامل في إجازة أسبوعي العسل منذ خمس وأربعون يوماً .

لحق الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " بالحاج " على عبد الرحمن " عند درجة السلم الثانية , تصافحا , وأبدى الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " عجبه بسبب بدأ الحاج " على " بالانتخاب في مدرسة المهندس الشيمي بدلاً من مدرسة النصر الإعدادية بنات الكائنة بجوار منزل الحاج " على " ... لا عجب .... فالحاج " على " يمتلك وحده خمسة أصوات في أربعة مقار انتخابية , اللهم لا حسد , وكانت دورة الحاج " على " للانتخاب معتادة ومعروفة , يبدأ بمدرسة النصر الاعدادية بنات المجاورة لمنزله , ثم يعود إلى المنزل على مسافة بضعة خطوات ليستقل سيارته الفيات  " 128 " ويسرع إلى مبنى " السيما القديمة " حيث يتحول إلى مقر انتخابي , يدلي بصوته ثم يتلكأ قليلاً حتى تأتي الساعة الحادية عشر ليذهب إلى مدرسة المهندس أحمد الشيمي , يظل الحاج " على " من الساعة التاسعة والربع تقريباً على الساعة الحادية عشر متفقداً أحوال اللجان والمدارس التي لا صوت له فيها , مطمئناً على سلامة سير العملية الانتخابية , ومضيعاً الوقت حتى الساعة الحادية عشر , فالحادية عشر بالتمام يصل الرائد " كمال الأنصاري " إبن المعلم " حسين الأنصاري " زميل وصديق الحاج " على " منذ أكثر من أربعون عاماً , يصل الرائد " كمال الأنصاري " إلى مقره المعتاد بمدرسة الشيمي في الساعة الحادية عشر , وينتظر الحاج " على " وصوله ليسهل له إجراءاً بسيطاً للغاية , فإسم الحاج هو : " على سيد عبد الرحمن منصور " , بينما صوته بالمدرسة تم تسجيل بإسم : " على سيد عبد الرحمن منظور " . والتوسط من أجل تسهيل الانتخاب رغم وجود هذا الخطأ هي مهمة الرائد " كمال الأنصاري " الدورية . ولكن الرائد " كمال الأنصاري " اتصل بالحاج " على " , وكل من على شاكلته وظروفه , قبل يوم المهرجان ليعلمهم انه سيصل على المقر في الساعة الثامنة بالتمام حيت سينتقل في العاشرة والنصف إلى مدرسة أخرى , ولهذا , طرأ هذا التغيير الطفيف على برنامج الحاج " على " للاقتراع كل مهرجان .
         
زال عجب الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " حين أخبره الحاج " على " بهذه القصة , وانطلقا فوق السلم صعوداً , وأكمل الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " صعوده للطابق الثالث وحده , حيث تركه الحاج " على " ليدخل لجنته بالطابق الثاني , ودخل الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " لجنة رقم " 38 " وأبرز الكارت الانتخابي المدون به بياناته كاملة : إسم الناخب , رقم الناخب , المقر الانتخابي , إسم الشياخة , رقم اللجنة  . تقدم عبر باب اللجنة أو الفصل الدراسي مجتازاً أمين الشرطة خارج باب اللجنة , وألقى التحية على عم " حسن الفوال " الجالس أمام باب اللجنة معلقاً رسغه فوق مقبض الباب الخشبي الرمادي المهلهل , ورد عليه التحية بابتسامة عريضة ولوح له بكف يده العالق فوق المقبض دون أن يرفعه . تقدم إلى المنضدة الجالس عليها ثلاثة مدرسين , لا يعرف منهم سوى الأستاذ " إبراهيم " مدرس الرياضيات بمدرسة الفجر الثانوية بنين التابعة للقرية المجاورة لهم , ألقى عليه التحية فردها , وتناول منه الكارت الانتخابي , وبدأ البحث بالكشوف الانتخابية على اسم الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " .

 لم يلحظ الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " تلك النظرة الجانبية التي خطفها الأستاذ " إبراهيم " نحو عم " حسن الفوال " , والتي لم تستغرق خمسة ثوان , وبعد أن أنهى الأستاذ " إبراهيم " بحثه , أخبر الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " بعدم وجود اسمه بالكشف , ألح الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " على الأستاذ " إبراهيم " بإعادة البحث , فمن المؤكد أن هناك خطأ ما , إن هذا المقر لم يتغير منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً , ولكن إعادة البحث لم تسفر عن أية نتائج جديدة , خرج الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " مصدوماً , وحين خروجه من باب اللجنة وجد الحاج " على " ينتظره , وأخبره الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري "  بما حدث , وتصنع الحاج " على " الاندهاش , ونصحه بإعادة البحث في مقار أخرى , وأخبره بأن ثمة تنقلات لأسماء بعض الناخبين قد طرأت على الكشوف .

خرجا سوياً من باب المدرسة , وذهب الحاج " على " ليركب سيارته ويمضي إلى المقر التالي للإدلاء بصوته للمرة الرابعة في مدرسة الفجر الثانوية بنين الواقعة على الطريق المؤدي إلى البلدة المجاورة , مستغرقاً بالتفكير فيما حدث مع الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " ( إنه حقاً لشئ عجيب ... !!! ).

 وبينما يمد يده ليفتح باب السيارة أفاقه من غفوة الظن صوت " سعد المرشدي " , والذي تصادف أن يكون اسم عائلته هو مهنته , فهو يعمل كمرشد بقسم الشرطة , وبعد أن اطمأن الحاج " على " من المرشد " سعد " على سير المهرجان الانتخابي , بادره باستفسار عما حدث للاستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " عله يجد عنده إجابة , ارتسمت على وجه المرشد " سعد " تلك الملامح التي تكتسي وجه الوزير المسئول حين يسأل عن بعض الجوانب السرية في مملكته الوزارية , وتكون إجابته مغلفة بالغموض لكونها معلومات سرية لا يعرف كنهها سواه , شعر المرشد بأهميته القصوى واللامتناهية , وشرع يبحث في جيب قميصه الأزرق المموه ببقع بيضاء , وجيوب بنطاله المتدلي منه " كرشه " العظيم باحثاً عن علبة السجائر , فطن الحاج " على " إلى مغزى " الحركة " , وأخرج من جيب جلبابه علبة السجائر وأعطى منها سيجاره للمرشد , وضعها في فمه وانتظر أن يخرج الحاج " على " قداحته ليشعل له السيجارة , ولكن خاب ظنه , ( مش للدرجة دي يا مرشد العِرَر ) , حدث الحاج " على " نفسه , واعتبر ذلك تمادياً من المرشد في قلة ذوقه , أدرك المرشد ذلك , وأشعل عود ثقاب ونفث دخان السيجارة على يساره وبدأ بالحديث :

-         إنت عارف يا حاج على مين اللي كان قاعد في لجنة " 38 "  .. ؟؟؟ كان عم حسن الفوال  

أومأ الحاج " على " بأنه يعلم ذلك , حيث لمحه جالساً عند باب اللجنة أثناء انتظاره للأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " , وأخبره باندهاشه لوجوده باللجنة , فاستطرد المرشد سعد :

-         أهو حسن الفوال ده بأة يبقى وكيل المهندس : زين نصر الله مرشح الحزب ...!!!

 لم يستطع الحاج " على " إخفاء دهشته , أو ربما تعمد إظهار هذه الدهشة ليدفع المرشد الذي يعاني عقدة النقص إلى تكملة الحديث , وبالفعل , سقط المرشد في الفخ واستعد لإلقاء جل الأسرار في أذن الحاج " على " :

-      آة .. عم حسن وكيل مرشح الحزب , وزي مانت عارف , المهندس زين مش محتاج وكلا في اللجنة دي من الناس بتوعه , ده عايز ناس تقف لبتوع الأخوان أكتر , عشان كدة عمل توكيل لعم حسن

 لم يبذل الحاج " على " جهداً كبيراً ليقيم علاقات الترابط بين تلك المعلومات التي ألقاها له المرشد " سعد " , فقد كانت الخطة محبوكة بشدة , " حسن الفوال " هو بمثابة ذاكرة المدينة التي لم تكد تخرج من طور القروية بعد , ذلك الطور الذي تنكشف فيه أسرار البيوت والأشخاص بجلاء ووضوح , ووقع الاختيار عليه لإلمامه الكامل بسيرة أبناء المنطقة , بل وأبناء المدينة الوليدة من رحم القرية , لذلك , كان من الطبيعي أن ينصرف عم " حسن " باعتباره وكيل مرشح عن مراقبة العملية الانتخابية إلى المهمة الأخرى الأهم بل والوحيدة وهي التعرف على ميول الناخبين وسيرهم السياسية , فبمجرد دخول الناخب لجنة الاقتراع تبدأ النظرات المتبادلة والمتفق عليها بين عم " حسن " وبين المسئول عن الكشوف الانتخابية , وهذا ماحدث مع الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " الذي يعلم عم " حسن " انتمائه للإخوان , فبمجرد دخوله اللجنة ووقوفه أمام المنضدة رمق الأستاذ " إبراهيم " المسئول عن الكشوف عم " حسن " , الذي أومأ له بما يعني أن هذا الناخب من فصيلة " X  " , أي من هؤلاء المغضوب عليهم , وبالفعل , ضلل الأستاذ " إبراهيم " الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " وأخبره بأن اسمه ليس مدرجاً بهذا الكشف . كذلك علم الحاج " على " بفطنته المتمرسة في عالم المهرجانات الانتخابية - كناخب مخضرم له خمسة أصوات - أن " حسن الفوال " يتكرر بنسخه المتعددة في كل لجان الدائرة , أو بالأحرى في كل لجان الجمهورية , وما حدث للأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " حدث مع الآلاف غيره . نظر الحاج " على " في ساعته وربت على كتف المرشد بما يعني " وفقكم الله " وركب سيارته , ومضى .

لم تفلح محاولات الأستاذ " خالد أمين سيد الباجوري " التمويهية , فقد دون بياناته على الكارت الانتخابي الخاص بأحد مرشحي الحزب الوطني , وهو المهندس " زين نصر الله "  , ليعلم كل من في اللجنة بانتمائه للحزب ومرشحه , هذا بجانب حضوره كل مؤتمرات المرشحين الحزبيين , إمعاناً في التمويه , ولكن هيهات , ان عم " حسن  الفوال " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

أحمد عبد الحي شلبي
الإثنين
 29 – 11 - 2010

المهرجان ( 2 )

تقع صيدلية " المنياوي " أمام مدرسة " النصر " الإعدادية بنات , وتقدم صاحبها الدكتور " أيمن فتحي " بأوراق ترشحه لانتخابات الحزب الوطني للترشح لمجلس الشعب على قائمته , ونجح في انتخابات الحزب مع المهندس " زين نصر الله " على مقعد الفئات , وبات الصراع محتدماً بينهما , وتلقى المهندس " زين نصر الله " ضربة قاصمة حين استمال " أيمن فتحي " عائلة من أكبر عائللات المدينة في صفه , ولكن المهندس " زين " بما له من علاقات واسعة ومتشعبة ووطيدة داخل الحزب الوطني كان مطمئناً للغاية , هذا ما نقله بعض مريديه وأعوانه ذوي الألسنة " الفالتة " , ولم يعد أحد يعلم علام يرتكن هذا وإلام يستند ذاك . المهم , جاء اليوم المشهود , يوم المهرجان , واستلام الصولجان , وبدأت الحركة الانتخابية في المقار هادئة , ومرت الساعات من التاسعة صباحاً وحتى الثالثة عصراً في غاية الهدوء , تشوبها بعض الحركات المتوترة لأنصار المرشحين , وأصوات المتحدثين عبر الهاتف تارة سراً , وتارة علناً , وخارج المقار تضج السيارات الميكروباص بأزيز محركاتها وآلات تنبيهها قادمة من المناطق البعيدة تقل الناخبين رجالاً ونساءً , فتلقيهم , وتعود لتحضر غيرهم , ثم تعود أخريات لتقل الناخبين بعد الانتهاء من الإدلاء أصواتهم إلى مساكنهم ثانية , خلية نحل في التكاتف الديمقراطي وإرساء دعائم الوعي السياسي .... !!!!

جاءت الساعة الثالثة تقريباً , وبدأت الحركة تزداد بشكل ملحوظ , فانقطعت المكالمات التليفونية عبر المحمول , وكفت السيارات عن الحركة , بل واختفت تقريباً , وازدحمت المنطقة أمام كل مقر انتخابي , وبدا وكأن شيئاً مريباً على وشك الحدوث , وبالفعل , لم تمضي دقائق حتى خرجت الكشوف الانتخابية من اللجان , وأكرر , الكشوف الانتخابية الأصلية , المعتمدة , المختومة بخاتم الدولة , الكشوف التي هي عهدة مسئولي اللجان والتي تقع تحت مراقبة وكلاء المرشحين , خرجت الكشوف مدسوسة في جيوب بعض الأشخاص , وتحت قمصانهم , بل وفي أرديتهم الداخلية إن لزم الأمر , كما رافقتها في الخروج البطاقات الانتخابية نفسها , ودخلت الكشوف والبطاقات صيدلية الدكتور " أيمن " , وأغلقت أبواب الصيدلية , ووقف على أبوابها الثلاثة أشخاصاً ثلاثة من العاملين بها , وحين ذهبت امرأة لشراء عبوة " بامبرز " لوليدها أخبرها أحد حراس الأبواب الثلاثة بأن الصيدلية مغلقة , غبية هي هذه المرأة بالتأكيد , ألم تلحظ هذا الكم من أجهزة الحاسب المزروعة أمام الصيدلية التي تحولت إلى مقر انتخابي لاستخراج البطاقات الانتخابية ... ؟؟؟!!!! ألم تلحظ ذلك الزحام الشديد أمام الصيدلية .. ؟؟؟!!!!

لم يكتف أنصار الدكتور " أيمن " بتسويد الكشوف في اللجان , بل وصل بهم الحد لجلب الكشوف نفسها إلى مكان آخر لتتم عملية التسويد دون إزعاج .

وعند حلول الساعة الخامسة مساءاً , وجد أنصار المرشحين أن عملية التسويد لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب , فقرروا العثور على وسيلة أخرى , وبدأ البحث عن أسماء مشابهة للأسماء التي لم تنتخب ولم تسود , فدخل شخص يدعى " أحمد سعد محمد " ليصوت بدلاً من شخص آخر لا يعرفه يدعى " أحمد سعيد محمد " , كما دخل شاب يدعى " محمود إبراهيم عبد الحميد " ليصوت بدلاً من صاحب الإسم " محمود إبراهيم عبد المجيد " .. وهكذا

في مدرسة نجيب محفوظ الصناعية بنات , دخل الحاج " على عبد الرحمن " ليتم بخير مروره الكريم على المقار , وقف أمام باب اللجنة " 9 " المغلق , نظر في ساعته ووجدها تشير إلى السادسة والربع , ( عجباً .. !!! بقيت ساعة إلا الربع على انتهاء عملية التصويت ), وأثناء وقوفه بادره شاب في الثلاثين من عمره بسؤال عن سبب وقوفه , فأخبره الحاج بأن صوته في هذه اللجنة , وأنه يرغب بالتصويت , إن لم يمنع من ذلك مانع , فابتسم الشاب الذي تهدل قميصه خارج بنطاله في نهاية اليوم المرهِق وقال له أن اللجنة الآن مغلقة لمدة ربع ساعة لدواعٍ أمنية , بالطبع لم ينطلِ الرد على الحاج " على " المخضرم في ألاعيب التصويت , فمال على الشاب وسأله :

- فين اللجنة المفتوحة هنا .. ؟؟؟؟

 تسمر الشاب قليلاً , ثم أدرك أن الحاج " على " ( مننا وعلينا ) , وأنه على علم بعمليات التسويد التي تمت وتتم , كما أخبره الحاج " على " بصراحة مطلقة بأنه آتٍ من أربع مقار للتو , أدلى فيهم كلهم بصوته .. أقصد .. بأصواته , فأخرج الشاب هاتفه من جيبه وقام بإجراء مكالمة , ولم تمر دقائق حتى بدا الحاج " فتوح " صاعداً السلم بتثاقل , وما أن رأى الحاج " على " حتى صافحه , وأخذ بيده تحت إبطه وفتح باب اللجنة , المغلق بأمر أمني , ودخل ملقياً التحية على موظف إدارة التأمينات الاجتماعية المسئول عن الكشوف الانتخابية , وناوله الموظف بدوره كشوف الانتخاب وانصرف لتناول زجاجة المياة الغازية , أخذ الحاج " فتوح " يقلب في الكشوف باحثاً عن اسم الحاج " على " حتى وقعت عيناهما عليه , فوجده قد انتخب بالفعل , يبدو أن شخصاً آخر قد وقع على الكشف " نيابة " عنه.. !!! , لم يبد أياً منهما ردة فعل تذكر , وكأن الأمر طبيعي , بل واستمرا في البحث , فوجدا شخصاً يدعى : " على سيد عبد الرحمن فؤاد " , فوقع الحاج " على " أمام الإسم , وأسقط بطاقته الانتخابية في الصندوق " الشفاف " , وألقوا التحية على الحضور منصرفين , متقدمين عبر الطرقة نحو السلم ,  ولا يزال الحاج " فتوح " متأبطاً ذراع الحاج " على " , ورن هاتف الحاج " فتوح " , فأخرجه من جيبه ورد عليه , ولا يزال متأبطاً ذراع الحاج " على " , أنهى الحاج " فتوح " مكالمته , وعرج بصحبة صديقه إلى لجنة " 12 " , ودخلاها , وأمسك الحاج " فتوح " بكشف الناخبين , وأخرج اسم : " على سعيد عبد الرحمن " , وقام الحاج " على " بالامضاء - للمرة العشرون على ما أذكر - أمامه وأسقط ورقة الانتخاب في الصندوق الشفاف , وحين خرجوا من اللجنة , ربت الحاج " على " على كتف الحاج " فتوح " بيده اليسرى وصافحه باليمنى , فصعق الحاج " فتوح " حين وجد بقعة زرقاء على كتفه بعد ربتة الحاج " على " , فداعبه لائماً إياه على تلك البقعة التي سببها له , فقال له الحاج " على " :

-        يا سيدي انت أمرك سهل , الجلابية بتاعتك هتتغسل وتنضف وخلاص , إنما الحبر اللي في صباعي ده شكله مش هيطلع في سنته

 فسأله الحاج " فتوح " عن السب فرد له الحاج " على " :

-          عشان كل مرة بانتخب فيها بحط صباعي في إزازة الحبر , النزاهة الانتخابية ليها احترامها برضه يا حاج فتوح  .


أحمد عبد الحي شلبي
الإثنين
 13 – 12 - 2010

المهرجان ( 3 )

في بهو منزل المرحوم الأستاذ " عبد الوهاب أبو يوسف " تراصت المقاعد الخشبية والكراسي التي هي في الأصل حطام صالون فاخر قديم من العصر القروي , وعلى الأرض تناثرت الوسائد الصالحة للجلوس والاتكاء , وعلى جدران المنزل المطلي بطبقة الجير ذات اللون المائل للزرقة علقت صورة المرحوم الحاج , عضو مجلس الشعب الأسبق , وعلى يمينها ويسارها إطاران مذهبان نقشت فيهما آيات قرآنية .

أمسك المهندس " زين نصر الله " بهاتفه المحمول ليجري اتصالاً , بينما انشغل الحضور بهمسات جانبية , وكان الأستاذ " فهمي " مستغرقاً في حديث طويل مع أحد الأشخاص بجواره , قد لا يعرفه أصلاً , حول ما حدث في يوم الإعادة , وما قام به الأستاذ " فهمي " من مجهودات جبارة وخارقة من اجل تسهيل عمليات التسويد , وعن كم النقود التي صرفها على القائمين بعمليات التسويد بين مأكل ومشرب , وبين الفاكهة والمياة الغازية التي أحضرها لهم , وبين الحشيش الذي اشتراه لهم بأكثر من سبعة آلاف جنيه , وحول الفوضى التي سببها له هؤلاء بشقته الواسعة عقب الانتخابات , وحول أصدقائه وكلاء المهندس في اللجان الأخرى التابعة للدائرة والتي تقع تحت سيطرة مرشحين آخرين وعن تعليماته المستمرة لهم ودفاعهم المستميت لمنع التسويد في هذه اللجان , وكيف كان لهذه التعليمات تأثيراً عظيماً في نجاح المهندس , بينما بادله الرجل الآخر , الذي لا يعرفه الأستاذ " فهمي " , بعبارات من قبيل :

-    ما هو انت الخير والبركة يا أستاذ فهمي , يعني هو الباشمهندس له مين غيرك , كلنا عارفين ومقدرين وشايفين تعبك ومجهودك مع المهندس , ده انتو عشرة عمر يا راجل

وعلى الجدار المقابل , دار نفس الحديث , نفس الحديث بين رجلان آخران , وتتبدل الأدوار بين الأشخاص , ولكن الكلمات تتكرر , وكأن الجميع قاموا بنفس الأفعال , وخاضوا نفس التجارب , وأنجزوا نفس المهمات . دخل فتى صغير يخبر أحد الجالسين بأن العجول والخراف وصلت لتوها , فأشار له بأن يقودهم إلى بهو المنزل في ركن بعيد , لحين سماع النتيجة الرسمية من وزارة الداخلية .

كان اليوم , الأربعاء , يوم مشهود في تاريخ المهندس " زين نصر الله " , حيث تمكن من اقتناص مقعد المجلس الموقر من بين فكي الأسد , بعلاقاته المترامية الواسعة , وثروته الهائلة , وخصوصاً بعد أن تفوق على خصمه اللدود الدكتور " أيمن فتحي " في انتخابات الإعادة . لقد وضعه الحزب في موقف صعب , حيث اختار على مقعد الفئات ثلاثة  من نفس الدائرة , منهم اثنان من نفس المدينة , وبات الصراع محتدماً , إلا أن الغلبة في النهاية كانت لصوت رنين النقود .

غاص الجميع في الأحلام , وبدأ كل من له علاقة , ولو بسيطة وعابرة , بالمرشح الفائز في صياغة مطالبه والتماساته , وكأن عفريتاً خرج لتوه من القمقم نذر جهده لخدمة هؤلاء , فقط هؤلاء .


أحمد عبد الحي شلبي
الإثنين
 13 – 12 - 2010