2011-04-24

في الدكان

 أغرب اللحظات التي قد يعيشها الإنسان هي لحظات التقمص , وحين نتحدث عن التقمص فإننا نتحدث , دون حرج , عن صفة أصيلة في الإنسان المصري . فإذا كان رواد أدب الرحلات يتعرضون في أعمالهم للصفات المميزة للأمة الفلانية , أو المزايا والعيوب التي تكتنف شخصية الشعب الفلاني , فإننا ننفرد – كمصريين – بصفة غريبة لا ينازعنا فيها سوى أعضاء الفرق التمثيلية من شتى بقاع الأرض . بدلاً من البحث في المعاجم والقواميس ودوائر المعارف عن معنى كلمة التقمص , وبدلاً من استشارة الإطباء النفسيين والمحللين الاجتماعيين عن مدلول حالة التقمص فإننا سنتعامل معها باعتبارها تلك الحالة التي يرتدي فيها الشخص رداءاً غير ردائه ويتعامل بشكل مغاير تماماً لطبيعته الأصلية . ومن هذا المنطلق , سيكون من الضروري استعراض الأمثلة التي توضح ما نروم إليه , دون كلفة أو تلفيق .

في مساء صيفي مفعم بالحياة , على الأقل في نظري , كان تراب الشارع أمام الدكان مبللاً , وفي مناطق أخرى " مطيناً " بعد أن قام صاحب المنزل الذي يقع تحته الدكان برش الشارع من خلال خرطوم متصل بالصنبور المغروس على الجدار الخارجي للدكان . وكنت أتحين الفرصة التي أستمتع فيها بالجلوس أمام الدكان  على الكرسي البلاستيكي وأنا أتصفح الجرائد . ولما كان الشارع يصطخب بكافة ألوان الضجيج فإن التركيز اللازم لمتابعة أي قراءة كان يحتضر تدريجياً , ولم تفلح رشفات القهوة ودخان السجائر في إيقاظ الذهن من ذلك السبات . لذلك , فقد كنت أصطنع الانهماك في القراءة بينما كانت مقلتي تصطحب الذاهب والعائد تساندها في تحركاتها أذني ملتقطة كل الأصوات والهمهمات والصيحات .

حضرت سيدة في الأربعين من عمرها , أو هكذا تبدو , لاستلام صور ابنيها , وكانت أن حضرت قبل يومين لتصورهما بملابسهما الجديدة وأصرت على أن تكون الصور من المقاس الكبير , ودون أن تسأل على الثمن , كما اعتدت غالباً . ولجت المكان , وتبعتها , جلست على الكرسي أمام المكتب , وأعطيتها الصور بعد أن أعطتني إيصال الاستلام . فرحت كثيراً بالصور , أو بالأحرى فرحت بابنيها , شكرتني وأثنت على براعتي في تجميل صورة الولدين , حتى باتا مغايرين للأصل . وحين سألتني على السعر قلت لها أن تكلفتهما خمس وعشرون جنيهاً .

في مصر , يعاني الأهالي من مرض الشك , والتشكك الدائم في نية الآخرين , وخصوصاً فيما يتعلق بعمليات البيع والشراء , ودون التعرض لأسباب هذا المرض فسنكتفي بضرب بعض الأمثلة التي تلقي الضوء على المشكلة . ففي أحد المرات , كنت بصحبة صديق لي حينما قرر بيع جهاز " MP4 " الخاص به لمروره بضائقة مالية , كان للجهاز شكل غريب يوحي بارتفاع سعره , وهذا ما تأكدت منه حين أخبرني صديقي بأنه اشتراه " بكرتونته " منذ شهرين بأربعمائة جنيه . وأثناء جلوسنا على المقهى أتى أحد معارف هذا الصديق الذي أخبره بنيته في بيع الجهاز الخاص به . تناول الوافد الجهاز وأخذ يقلبه بين كفيه مصطنعاً تفحصه , ثم ناوله لصديقي الذي بدت على ملامحه معالم الاستياء والضجر , ثم سأله السؤال التقليدي " على كام ده ... ؟؟؟؟ " أخبره صديقي بثمن الجهاز الحقيقي , ثم أخبره بالثمن الذي يريده بالمقابل , ورد عليه الآخر بكلمة يبدو أنها كانت على لسانه قبل أن ينطق صديقي بالسعر .جاء عامل المقهى ليقوم بتبديل حجر الشيشة لي , فطلبت منه إحضار كوباً من الينسون  مما حال بيني وبين  سماع السعر الذي أخبره به صديقي , ولكني سمعت الآخر يقول له بلهجة استنكار : " كتير " , اعتذر صديقي عن إتمام عملية البيع تحت إلحاح المشتري بتخفيض السعر قليلاً . ولما قام الآخر مبتعداً بعد إلقائه تحية الوداع أخذتني دهشة عظيمة حين أخبرني صديقي بالثمن الذي عرضه علي الشاب وهو ستون جنيهاً ... !!!!!!!

موقف آخر لم أنساه حين التمس أحدهم من الطبيب الصيدلي تخفيضاً على الأدوية التي اشتراها معللاً التماسه هذا بأنه أحد الزبائن دائمي التردد على الصيدلية .

وآخر طلب من سائق الميكروباص تخفيض الأجرة لأنه ركب ومعه أربعة أنفار , مما يستلزم عملية " خصم على الكميات الكبيرة " كما هو الحال في بعض الصفقات التجارية .

كل هذه المواقف أكدت لي أنه إذا عُرض على أحد المصريين شراء فيلا في الساحل الشمالي بسعر خمسون قرشاً سيتشكك في الأمر , وقد يرفض العرض الخيالي حتى ولو كانت مستندات البيع والتسجيل حاضرة وواقعية .

لذلك , فقد اعتدت على أمور " الفصال " وفنونها وأساليبها , وتعلمت في مدرسة السوق المصري طرائق الهروب منها والتملص من براثنها , بل وأبدعت حين ابتكرت أساليبً خاصة تمكنني من فرض السعر المناسب دون إنقاص قرش واحد دون أن يتسبب ذلك في إثارة استياء العميل وضجره . وبناءاً عليه , فقد كان رد فعل السيدة حول ارتفاع السعر نذيراً ببدء معركة كلامية شرسة أستنفذ فيها كل فنون المداهنة والتملق والعبوس والابتسام بغية تحصيل المبلغ كاملاً .

للحق , لم تكن المعركة ضارية , بل إن السيدة أقرت بجودة الصور واستحقاقها للنقود , ولكن الأمر قد تحول إلى مسار آخر حين أخبرتني بأنها لم تكن تعلم بهذا السعر , رغم تدوينه بالإيصال , وأنها أحضرت معها فقط عشرون جنيهاً . ولأن خبرتي البسيطة السابقة علمتني بأن تسليم السلعة كاملة لابد وأن يقابله تسليم الثمن كاملاً فقد أبيت بشدة , وتركت لها فرصة الذهاب إلى المنزل لإحضار بقية المبلغ التافه , أو إرساله مع أحد أبنائها , إلا أن محاولات التقريب كلها باءت بالفشل حتى كدنا نصل في جدلنا العقيم الذي امتد لعشرون دقيقة إلى جدار صلد .

كان الوقت المنصرم في النقاش والجهد المبذول فيه دافعاً قوياً للإصرار على قبض الثمن كاملاً دون مراعاة لأية اعتبارات أو توسلات , وشعرت بأن الرأسمالي القابع في روح التاجر قد خرج من مكمنه وسيطر كليةً على جسدي وعقلي وروحي . تخلل النقاش الذي لا يزال مشبعاً بروحاً ودية بعض الضجر , مما حدا بي إلى ترك المكتب والدخول إلى صالة التصوير , فجلست على منضدة الكمبيوتر متصنعاً العمل , وبدت تلك إشارة مني للسيدة بالموافقة الذي يكتنفها الامتعاض .

كنت أتوقع أن تخرج السيدة من المكان وقد ظفرت أخيراً بموافقتي على العشرون جنيهاً في ظل ضجري واستيائي , ولكنها وقفت أمام باب صالة التصوير وبدأت جولة جديدة من الإلحاح , ولكنه إلحاح على مطلب آخر غير التخفيض , إلحاح على محو آثار الضجر فوق وجهي , وذلك من خلال إبداء علامات الرضا والمسامحة في المبلغ المتبقي . يبدو أنها كانت تخشى عقاب الله , فقررت ألا تمضي قبل تظفر بموافقتي الميمونة على هذا التخفيض دون استياء .

وجدت نفسي أتسائل رغماً عني بعد رحيلها عن رغبتها القوية وإلحاحها المستميت من أجل محو أمارات الضجر التي غمرت انفعالاتي , ولم أجد تفسيراً لذلك سوى إحساسها بأن استحواذها على شئ دون رضا صاحبها إنما يشبه السرقة والاستيلاء , وهذا الإحساس هو ما دفعها للاستماتة من أجل نيل موافقتي المشبعة بالرضا والتسامح . قد تكون تلك الطريقة في التفكير من مخلفات أخلاق القرية المصرية , وقد تكون من علامات الخشية من العقاب الأخروي , وقد تكون خوفاً على الوضع الاجتماعي .

إذن , فالدوافع كثيرة , ولكن التصرف جاء نبيلاً بشكل ملفت , مما حدا بي إلى عقد مقارنة بين موقف تلك السيدة وبين تصرفات الكثيرين ممن يستحلون أموال الغير بالباطل ودون وجه حق , لصوص هذا الزمان , سارقي الأموال والأحلام .

أحمد عبد الحي شلبي
الأربعاء
20 – 8 - 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق