أبــــــــــــــــــي
============
إذن , فقد تقدم بك العمر
كثيراً , حتى رأيت أخاديداً تنبجس من وجنتيك ورقبتك , ازدادت البقع البنية على ظهر
كفيك , واختفت الشعيرات التي كانت تملأ ذراعك والتي كنت أتسلى بنزعها وأتلهى
بتأوهاتك الباسمة , خف كثيراً ذلك الشعر الأبيض الملتف حول دماغك تاركاً بقعة جلدية
لامعة في وسط الرأس , غارت مقلتيك للداخل وبدت عينيك وكأنهما سقطتا في مستنقع من
التجاعيد . ازداد الانحناء كثيراً , ونحل الجسد المكتنز , ولكن الوجه لا يزال
منتفخاً وكأنه يأبى الاستسلام لتطورات العمر . تغير الكثير بهيئتك , ولا تزال
ابتسامتك رسالة إلهية يحملها نبي يبشر ويكرز , وفي أغوار عينيك أستطيع تلمس الطريق
إلى الأمل . تغيرت كثيراً , ولكن لا يمكن أن ينسى المرء منا هيئة والده ... أبي ,
تجلس أمامي الآن , وبعد انسحابك هادئاً من جوار الأحياء منذ ثمانية أعوام .
بغرفة نومي , اتكأت
بمرفقي الأيسر على الوسادة الوثيرة , وامتد بصري إلى الكرسي الصغير أمام المرآة .
كان الشخص الجالس هو أبي , رحمه الله . وإذ لم ينتابني رعباً فقد رحت أبتسم له ,
وطردت من خاطري إلحاحاً باطنياً على النهوض والذهاب إليه لتقبيل رأسه أو حتى لربت
كتفه . لقد افتقدته كثيراً , ولكن أعلم أن الجالس على الكرسي خيالاً وطيفاً , لا
أكثر من ذلك , بأي شكل من الأشكال . اكتفيت بمجاراة خيالي المريض , مستمتعاً
بمحياه الغائب عن ناظري لوقت طويل , وتعجبت كثيراً لتلك التغييرات الطارئة على
وجهه وجسده , لم يكن كذلك حين رأيته آخر مرة ... لماذا تبديت لي في هذه الصورة ...
وليست الصورة الأخيرة التي كانت بالطبع أفضل من تلك الحالية ... ؟؟؟؟
- قد يكون هذا هو شكلي الحالي
سمعت صوتاً للتو , لم يكن
مرضاً أصاب سمعي كالذي أصاب خيالي . أعلم أن موجات صوتية ارتطمت بطبلة أذني الآن ,
لم أجن ..... ولن تنكر مسامعي مهما طال المغيب صوت والدي الممتلئ بالمرح , بالضبط
كعيني التي لا أشك الآن أنهما رأتاه ينهض ويسير الهوينى نحو زجاج النافذة ناظراً
بابتسامة عين وشفاه نحو السماء الزرقاء .
-
تتعجب كثيراً , كما هي عادتك
, من هيئتي .. وأجبتك بأنها قد تكون تلك هي هيئتي الحالية لو أنني لا زلت أحيا ...
أليس ذلك منطقياً ... ؟؟؟؟
اعتدلت في جلستي , في حضرة
والدي لا يصح أن أتكئ بهذا الوضع , وانتصبت في وقفتي , مبعداً عن رأسي فكرة الذهاب
إليه , أو حتى السير نحوه والاقتراب منه , واكتفيت بالنظر إليه ... ثارت في روحي
ملايين الأحاسيس , حتى أكاد أفشل في التعرف على أحدها منفرداً , فقررت التركيز في
اللقاء المفاجئ , الذي يبدو أنه قد تم في غفلة من الزمن وخالقه . تراخى جسدي
قليلاً , فأسندت كتفي إلى الجدار الذي يفصله عن السرير مسافة نصف متر , مشكلاً
ممراً قصيراً يرتشق في وسطه جسدي الحقيقي , أو كذلك يبدو لي , بينما تنفلت من كل
ثقوب هذا الجسد قطرات روحي , تتساقط على أرضية الغرفة الرخامية فتتجمع في خيوط ,
تتضخم فتصبح أنهاراً تصب أخيراً عند قدمي الجسد الآخر في الغرفة , الجسد الغير
حقيقي , أو كذلك يبدو لي .
-
إذن فأنت أبي , جميل , جميل
جداً .
-
إذا كنت قد حضرت في وقت غير
مناسب , فبإمكانك أن تذهب أنت . أما أنا فلن أبرح الغرفة حتى أنتهي
-
مم .؟
-
مما أتيت من أجله .
-
وما هو .. ؟؟
-
قد لا يهم الآن ... كيف حالك
.. ؟؟؟
-
بخير .. طالما أنت تشعر
بالراحة .
-
لا تقرن نفسك بي , لحياتي
الآن مفاهيمها الخاصة التي لا تنطبق على أمثالك . أطال الله عمرك .
-
كما أطال عمرك .
-
وعلى الرغم من ذلك , غادرت
الدنيا وكأنني لم ألبث بها لحظات .
-
أنهيت ما جئت من أجله , سنن
الله في الخلق .
-
ولكن الإنسان يهتك سنن الله .
-
كما فعلت أنت .. ؟؟!!!!
-
وكما فعلت أنت أيضاً .
-
لا داعي لنبش الماضي , كفانا
الاطمئنان على أحوال بعضنا الآخر .
صوت زقزقة العصفور المحبوس في قفص أرجواني معلق
بالخارج على جدار الشرفة , صوت فحيح أوراق الشجر السميكة وصوت اصطدامها بزجاج
النافذة , صوت أنفاسي اللاهثة , وصوت نبضات قلبي . تحرك جسده بلا صوت والتفت نحوي
لتلتقي أعيننا في صراع تغلفه الوحشة والاغتراب . يقترب خطوتين , ولا أجرؤ على
الاقتراب أو الابتعاد . نظرات متلاحقة , التهمت عيناه وجنتي وشعري وعيناي وشفتاي وأزاحت
بشعاعها الأثيري تلك الملابس التي تستر جسدي فتفحصتها حتى ارتوت . عاد لجلسته
السابقة على الكرسي الصغير , وعلى الرغم من أن ظهره كان ملاصقاً تقريباً للمرآة
فإنني لم أجد صورته المنعكسة على تلك المرآة ... كان الكرسي شاغراً .
-
استأت كثيراً عندما علمت أنك
أبيت حضور إجراءات الغسل والدفن .
-
لك الحق .
-
أكنت تخشى المنظر .. ؟؟؟؟
-
أهاب الموت منذ طفولتي ,
وأرتعد خوفاً من النهاية
-
لم أكن أعلم .
-
ومنذ متى وأنت تعلم شيئاً .
كان الحوار ملتهباً , لا يليق بأب وولده , كما لا يليق
بكيانين على حافتي الوجود .
- لقد
قررت أنت بنفسك أن تكمل حياتك مع والدتك , ولم أجبرك على ذلك , بل إني طلبت منك أن
أتكفل بك بشكل كامل , فأبيت .
- أعيش
برفقتك وزوجتك الحنون , عرض ممتاز , ولكن إصرارك على هجرتي والدتي تماماً حطم سخاء
العرض . ألا ترى ذلك .. ؟؟؟؟
-
أردت أن أصنع منك رجلاً , أن
يربيك رجلاً خير من تربيك امرأة .
- لو
كان الأمر كذلك لكانت سنة الله في خلقه أن يتزوج الرجال بعضهم البعض . وعلى الرغم
من ذلك , فقد راجعت نفسك قبل وفاتك بسنين قليلة , وراجعت نفسي كذلك , وعادت بعض
قطرات الدماء لتبلل بعض العروق ضاربة شكلاً باهتاً من أشكال الحياة على علاقتنا
الغريبة , وعدت لزيارتك بين الحين والآخر . أعتقد أنك كنت سعيداً بذلك .
-
ولكنك أنت لم تكن سعيداً .
أتجنب الصدمات دوماً , وأخشى
أن تجرح كلماتي مشاعر الأشخاص , ولكن أبي - والحال هكذا - ليس شخصاً , كما أن
الموقف يملي الصراحة أكثر ما يملي التصرف بلباقة .
- لقد
ابتعدت عني , أو ابتعدت عنك , طيلة فترة حساسة للغاية في تشكيل وعي الإنسان . تلك
الفترة التي تتبلور فيها المعاني والمفاهيم التي تصوغ مستقبلاً الخطوط العامة
لشخصية الفرد ....
-
تتحدث مثل عمك .
-
ولما كان أبي في تلك الفترة
لا وجود له فقد ثبت لدي عدمك من حياتي وإحساسي . أرجو ألا تغضب
-
لا غضب .
- لذلك
فقد كانت زياراتي لك في الآونة الأخيرة سببها إرضائك , فقط , بعد نصائح والدتي
وإخوتي وأخوالي ... أرجو أن تسامحني لصراحتي .
-
سيأتي اليوم الذي تتصرف فيه
بشكل يذكرك بما فعلته أنا معك .
قال عبارته الأخيرة باسماً , ولم أدرك مقصده , إلا أني
تابعت ...
- أتعلم
يا أبي ... لقد أخطأت في حقك كثيراً . ولكنك ستلتمس العذر لي . لقد كانت طفولتي
غريبة , حقاً . ينشأ الإنسان بين أبوين في بيت واحد , وقد نشأت في بيتين . لكل منا
أم واحدة , وقد وهبني الله إثنتين . أتعرف يا أبي خطورة أن يكون للإنسان في طفولته
منهلين ... ؟؟؟؟ بالضبط كجندي يرتدي زياً
مخالفاً لزي أقرانه وأعدائه , ولكنه مزيج بينهم , فلا يدري إن كان عدواً أم صديقاً
... !!!
-
ولكنك الآن رجلاً سوياً .
-
لا يجوز لي أن أحاسبك على
قرارك بالانفصال عن والدتي , قد يكون قراراً صائباً .
-
جميل أنك تلتمس الأعذار .
-
لقد تميزت بعنادك الوفير ,
الذي ورثته عنك .
-
للعناد مزايا .
-
أعلم . ولكني أفتقدك الآن
كثيراً .
شعرت ببوادر انهيار , بدأ الصدع من الداخل إلى الخارج
, وأحسست بأن أصابعي الصغيرة العابثة بشعيرات يده قد بُعثت من عصور موغلة في
الظلام . وفشلت في إخفاء تلك الرغبة في احتضانه . خطوة واحدة للأمام , أصبحت يداه
في متناول كفي . أمد يدي لأتصل بعالم آخر لا أبغي منه سوى رشفة رحيق تعينني على
احتمال المجهول , أو تحيلني رماداً . تصلب الجسد الجالس أمامي , أحسست أنه مات
ثانيةً , جثوت على ركبتي أمامه , مسافة ضئيلة تفصل الوجهين , ودهوراً أيضاً . لمحت
في الحدقتين الغائرتين صورتي المنعكسة , كانت واضحة بالرغم من ضآلتها , وتبينت
ملامحي , ملامح جديدة , شعرٌ أشعث , لحية طويلة وابتسامه عريضة , نور يغشى الجلد
الأبيض بين خصلات الشعر المتهدل واللحية الكثة المنمقة , وكانت نظارتي الذهبية
الرقيقة قد استبدلت بنظارة والدي السوداء السميكة . تلك كانت صورتي التي نقشت في
قلبي بأحبار الفراعنة الأبدية . وهممت أخيراً بتنفيذ رغبتي الملحة , وأقلع كف يدي
الأيمن من مطار السكون المطلق لكي يحاول الهبوط بين غابات الشعر الكثيف الذي رآه
خيالي ولم يكن موجوداً , وفي الهواء علقت يدي , ولمحت بطرف عيني اليسرى انفراجة
صغيرة بباب الغرفة , أخذت تتسع وجيوش النور تتسلل أحياناً وتندفع أحياناً مع اتساع
الزاوية . وبدا من خلف الباب ولدي الصغير الذي يستطيع بالكاد الإمساك بمقبض باب
الغرفة ليفتحه وينير ظلمة الغرفة وحياتي . دون أن ينبس بكلمة من كلماته الطفولية ,
جلس أمامي على الكرسي , وتناول يدي العالقة في الهواء بكفه الصغير ووضعها على رسغه
الممتلئ لحماً ونوراً , والناعم كوبر الخوخة . أسلمت روحي لعينيه , وانكشفت في
حدقتيه صورتي . ولكنها صورتي الحالية التي أعرفها جيداً .
أحمد عبد الحي شلبي
8
– 1 –
2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق