2010-10-07

لتحيي في نعيم آخر .. جدتي

كان يوماً مرهقاً بحق , عدت إلى المنزل بعد قضاء صباح يوم في المقابر , توفيت جدتي والدة أمي ليلة أمس عن عمر يناهز الخمس والتسعون , وشيعنا جنازتها في صلاة الظهر من مسجد السيدة نفيسة , ثم أودعناها مسكنها الجديد , والأخير , بمدافن عائلة والدتي بمدينة نصر .

بالطبع لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أمشي فيها بين المقابر , ولكن لوهلة , راعني ذلك الإحساس بإنني الآن أقف بين المقابر , إن مشهد الأحواش المتراصة بنظام , وأبوابها , وزرعها الأخضر أمامها , والتراب الذي شعرت وكأنه دماء تلك المقابر ... كل ذلك فجر بداخلي إحساساً بإنني بالفعل أقف بين القبور .. يبدو أن القبور لها طعم خاص ومذاق مختلف ...

ولأنني لم أكن قد نلت قسطاً وافياً من النوم ليلة البارحة , فقد قررت فور عودتي إلى المنزل أن أستسلم لحمام بارد , لعل صوت خرير الماء ينحي من أذني صدى ذلك الصمت الذي غلفني واحتواني في المدافن , وقررت كذلك أن أغفو قليلاً كي أستطيع الصمود ليلاً لاستقبال المعزين في السرادق بعد صلاة المغرب . إفترش جسدي السرير , وكأنه استحال سائلاً ذاب فوق الفراش , ولم أجد سبباً يبقى عينيا مفتوحتين , فأغمضتهما , وكلي يقين أن النوم سيلحق بي الآن , وكأن غمضة عيني توازيها فتحة عين أخرى .. في مكان آخر ...

من بين تلك التجاعيد التي تكونت بفعل أقدام الأيام على وجه جدتي , تنفتح عينا جدتي , وفي الظلام تبصر جدتي جيداً كل محتويات الغرفة , الخالية , المظلمة , يمكنها الآن أن ترى بوضوح في الظلام , وظيفة جديدة طرأت على العين , لم تكن موجودة من قبل , وقع البصر على السقف الخرساني , وسرت ملامح الدهشة تكسو وجهها , وانتقلت تلك الأعين في أنحاء الغرفة التي تخلو من الأشياء التي اعتادت جدتي رؤيتها , ووقعت عيناها على جسدها المغلف بثوبان من القماش الأبيض ... " ما هذه الثياب ....!!!! " , بدت مستاءة بسبب ضيق الملابس البيضاء , انها معتادة على ارتداء الفضفاض من الأثواب , نهضت وفكت الملابس قليلاً ووقفت على قدميها , يبدو أن هناك شئ آخر قد تغير , انها تستطيع الآن أن تقف منتصبة على أقدامها دون عناء , مضى وقت طويل ولم تطأ قدميها الأرض , فقد كانت تتحرك دوماً من فوق هذا الكرسي المتحرك ذو العجلات , لم تكترث كثيراً بهذا التغير , وتقدمت باحثة عن أي شئ .

مرت اللحظات القليلة ثقيلة , وكما اعتادت , فقد آثرت أن تنادي على الأشخاص الذين اعتادت على الاستعانة بهم في قضاء مطالبها , صاحت بصوت ضعيف باسم خالتي .. صيحة , الثانية , الثالثة ... ولا مجيب , جربت أن تنادي بأسماء ابناء خالتي , واحداً تلو الآخر ... ولا مجيب , وقررت أن تنادي على أبنائها كلُ باسمه , ولما فرغت منهم بدأت تنادي على أحفادها , وأولاد أحفادها , حتى الرضع منهم ... وكذلك لا مجيب . ولكن صيحة من طيف الخيال كانت ترن في آذان أولئك الأحياء الذين يتحركون فوق الأرض , صوت الجدة , وكلما رنت تلك الصيحة في أذن أحدهم باسمه كان يجهش بالبكاء , وأحياناً يذرف دمعة رغماً عنه , على الأقل كان إحساساً بالحزن والفراق يعبر بمرارة أمام قلبه , أيكون طيف ذلك الصوت هو صوت جدتي من تحت التراب ..... !!!!!

تيقنت جدتي من أن لا أحد بالبيت سواها , ووقف الجسد النحيل حائراً في منتصف الظلام , ذلك الجسد الذي دب فيه الوهن فنال منه ما نال , عجيب أمر الأجساد , تأتي من العدم فتبدأ صغيرة , ثم تنمو وتتضخم , ثم تعود مرة أخرى للتضاؤل وينتهى بها الأمر ثانية إلى العدم , بدا الجسد صغيراً , يكاد يقارب جسد الصبي , ولكن الفارق هو أن أجساد الصبية يشتعل فيها العنفوان , بينما أجساد الشيوخ يلتهمها الوهن بشراسة . قررت جدتي أن تحاول الخروج بنفسها فبدأت بالبحث عن باب الخروج , وجالت عيونها على الجدران , ولكنها لم ترى أية أبواب , فبدأت باستخدام يديها ممرة كلاهما فوق الجدران الترابية الخشنة علها تشعر بنتوء بوابة الخروج , ولكنها لم تجد , عم تبحثين يا جدتي , أبواب هذه الغرف لا تقع على الجدران , وإنما مكانها في السقف , تريد جدتي الخروج ... ولكن ... لا يمكنها ذلك بعد الآن .

مضت ساعتان وجسدي بلا حراك فوق الفراش , ولم أتنبه إلا لصوت المنبه الذي قمت بضبطه حتى لا أغرق في النوم فأتأخر على ميعاد العزاء , فتحت عيناي , كما فعلت جدتي .. ووطأت قدمي الأرض , كما فعلت جدتي .. وتوجهت نحو باب الغرفة , ذلك الذي لم تجد مثله جدتي لتخرج مثلما سأخرج أنا الآن إلى الخارج .. إلى الحياة . يخرج بعضنا عبر الأبواب إلى حياة , ويدخل البعض الآخر عبر الأبواب إلى الموت , أيهما الأصل ... أهل نفارق الحياة أم الموت ..؟؟؟ أهل نعود للحياة أم للموت ..؟؟؟ من أي عباءة خرجنا ... عباءة الحياة .. أم عباءة الموت ....؟؟؟؟

لا أعلم ماذا حدث لجدتي بعد ذلك ... قد تكون في انتظار ملكين لاستجوابها , وقد تكون استسلمت لمصيرها وقبعت منتظرة شئ يأخذها لعالم آخر , وقد يكون هذا هو عالمها الأخير .. وقد يكون ما حدث مرحلة , تأتي بعدها مراحل أخرى , بحياة أخرى , بشكل آخر , مع أناس آخرين , ولكن المؤكد أن حياتها ستستمر ... لا أستطيع تقبل فكرة النهاية بهذه السهولة , لم يعتد البشر على أن يكون لكل شئ نهاية , لم يكن للظلم نهاية , وكذلك العدل .. لم يكن للزيف نهاية , وكذلك الحق ... لم يكن للحلم نهاية , وكذلك الواقع .. لم يكن للكون نهاية , لم يكن لليأس نهاية , لم يكن للنور نهاية , لم يكن للجنون نهاية . أبداً لم يكن الموت نهاية , ولا يمكن أن يكون , وستظل الحياة ضاربة فينا , وسنظل متواجدين , لا يهم أين ومتى وكيف ... ولكننا سنبقى .

لتحيي في نعيم آخر يا جدتي ...!!!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق