في البداية لابد من توضيح بعض الأمور التي ستساعدنا على اجتياز مصاعب الشرح والتحليل .
نحن على يقين بأنه لابد لنا من خالق ندين له بالولاء والطاعة على اعتبار كونه موجدنا .
لم يكن من الممكن بطبيعة الحال أن يتجلى لنا الخالق بذاته ليشرع لنا مناهج حياتنا , فكانت وسيلته اصطفاء مجموعة من البشر ليقوموا بمهمة نقل الأوامر الإلهية والتي لا تستقيم حياتنا بدونها .
وكان هذا الاختيار يتم على أسس وقواعد معينة , لا يهمنا ذكرها الآن , ولكن ما يهمنا هو تلك الآليات التي تساعد وتيسر على المبعوث مهمة التبليغ , ومن هذه الآليات أفعال ومواقف خارقة للطبيعة تدلل على أن الرسالة بالفعل موحى بها من عند الله .
حقيقة الإيمان :
الإيمان هو التصديق المطلق والنهائي بمعتقد ما , ومن شروط الإيمان ألا يشوب الإنسان أدنى شك في صدق هذا المعتقد .
والشك كما نعلم هو فعل من أفعال العقل , إذ أن القلب لا يمتلك آلية التفكير التي تفضي به إلى الاقتناع أو الإنكار .. فهذه الآلية من أعمال العقل .. أما القلب فيكون أساس إيمانه شعور فطري تلقائي بتقبل الأمر أو رفضه .
القلب في مواجهة العقل :
يبدو أن هناك الكثير من المجالات التي يختصم فيها القلب والعقل , وتلك قضية أخذت نصيبها من البحث والتحليل على يد أغلب المشتغلين بالفلسفة وخصوصاً في مبحث الميتافيزيقا . وبين القائلين بإمكانية التوفيق بين القلب والعقل والقائلين بضرورة الفصل بينهما نتمكن من استخلاص حقيقة هامة وهي أن القلب والعقل – في أحيان كثيرة – لا يتفقان على ذات الأمر .
لننتقل الآن إلى موضوع البحث ...
هل يمكن للعقل قائماً بذاته ( العقل المحض ) بإدراك الغيبيات ...؟؟؟؟
بناءاً على ما أوردناه في البداية يتبين أن الغيبيات هي تلك المواقف والأمور التي لا تخضع مباشرة للحواس الخمس , وهي أيضاً لا تندرج تحت قائمة مبادئ العقل الأساسية ( كقوانين المنطق وقوانين الرياضيات وقوانين الطبيعة ) فالغيبيات لا يمكن إدراكها إدراك مباشر كمعرفتنا الفطرية بأن الكل أكبر من الجزء وأن حاصل جمع 1 + 1 يساوى 2 , بل أن إدراكها لابد له من آداة أخرى , وهي القلب , ذلك لأن القلب تتوافر فيه الشروط التي بها يتسنى له تصديق ما هو غير منطقي , فما للقلب وما للمنطق ..!!!!!
من العسير , بل من المستحيل أن تتوافر الأدلة والبراهين المنطقية والاستدلالية على سفر الرسول إلى القدس وعروجه إلى السماء في ليلة واحدة , وكذلك أن يسير المسيح على الماء , وكذلك أن ينشطر البحر الأحمر إلى نصفين على يد موسى ... فكان لزاماً أن يتنحى العقل تماماً أمام هذه الأمور , ويترك مجالاً للقلب , وبالأحرى , الإحساس لكي يتمكن من تقبل هذه الأحداث .
دور العقل في الإيمان
لما ثبت استحالة تعرف العقل على مالا يخضع للحواس ومبادئ العقل الأولية , فقد ترك مهمة التعرف هذه للقلب , تولى هو مهمة أخرى تالية لها وهي تدعيم ما آمن به القلب قدر المستطاع , فحينما انجذبت الفطرة نحو الإيمان بوجود موجود مفارق وخالق لهذا الكون انتفض العقل ليثبت ويدعم وجود هذا الموجود , فإننا لا نستدل بأفعال الله على وجوده ولكننا نستدل بأفعاله على قدرته وإرادته ووحدانيته ... إلخ إذ لا يمكن إقامة دلائل على وجوده أصلاً ... ولكن يمكن – بالكاد – إقامة دلائل على صفاته .
اجتهد علماء الكلام والفقهاء في إثبات وجود الله والملائكة والجنة والنار والشيطان والنبوة بالعقل بداية , ولكن هذا الأمر تحفه المخاطر من كل حدب , إذ أن من المعروف أن اختلاق الدلائل والبراهين لإثبات شئ ما لا يمنع أن تتأتى القرائح بعدها بإيجاد واختلاق دلائل وبراهين أخرى تدحض ما ثبت من دلائل وبراهين قديمة ... وبهذا نجد أن إعمال العقل في الغيبيات يهدد استقرار الإيمان بالقلوب ولا يدعمه , والدليل يمكن استقاؤه من حقائق العلم – وهي بالطبع من أعمال العقل – فحقائق العلم متقلبة ومتغيرة , وكم من العلماء قامت نظرياته على أنقاض نظريات أخرى تربعت عبر القرون على عرش العلم , وتثبت النظريات الجديدة خطأ النظريات القديمة , بالحجة والتجربة , فهل يمكننا أن نتعامل مع ثوابت الإيمان بمثل هذا المنطق ... !!!!
______________________________
بقي أن نوضح أمراً أخاطب فيه القلوب لا العقول :
إذا كنت منفعلاً بذلك الوجود الحي للإله في قلبك فأنت بذلك مؤمناً بوجود الله .
إذا كنت تميل إلى تصديق نبوة محمد بقلبك فأنت بذلك مؤمناً بنبوته .
إذا كنت تستشعر وجود ذلك الخير وذلك الشر فأنت بذلك مؤمناً بالملاك والشيطان .
إذا كنت تعتقد في جدوى الحياة فأنت بذلك مؤمناً بالجنة والنار .
أما إذا كنت تصر على أن تدرك وتقتنع وتفهم وتعقل فتيقن من فشلك قبل محاولتك الإثبات .
أمرنا الله بأن نشهد بوحدانيته وبنبوة رسوله , ولم يأمرنا بالاستدلال على الوحدانية وإثبات النبوة
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .... وكفى
_____________
رجاء مراجعة " إحياء علوم الدين " للغزالي
الباب السابع من الكتاب الأول ( كتاب العلم ) : في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه جــ 1 صــ 90
الفصل الثالث من الكتاب الثاني ( كتاب قواعد العقائد ) : في الإيمان جــ 1 صــ 118
كتاب ( شرح عجائب القلب ) جــ 2 صــ 414
الكتاب التاسع من ربع المنجيات ( كتاب التفكر ) جــ 4 صــ 351
أحمد عبد الحي شلبي
الأحد
18 / 2 / 2007
نحن على يقين بأنه لابد لنا من خالق ندين له بالولاء والطاعة على اعتبار كونه موجدنا .
لم يكن من الممكن بطبيعة الحال أن يتجلى لنا الخالق بذاته ليشرع لنا مناهج حياتنا , فكانت وسيلته اصطفاء مجموعة من البشر ليقوموا بمهمة نقل الأوامر الإلهية والتي لا تستقيم حياتنا بدونها .
وكان هذا الاختيار يتم على أسس وقواعد معينة , لا يهمنا ذكرها الآن , ولكن ما يهمنا هو تلك الآليات التي تساعد وتيسر على المبعوث مهمة التبليغ , ومن هذه الآليات أفعال ومواقف خارقة للطبيعة تدلل على أن الرسالة بالفعل موحى بها من عند الله .
حقيقة الإيمان :
الإيمان هو التصديق المطلق والنهائي بمعتقد ما , ومن شروط الإيمان ألا يشوب الإنسان أدنى شك في صدق هذا المعتقد .
والشك كما نعلم هو فعل من أفعال العقل , إذ أن القلب لا يمتلك آلية التفكير التي تفضي به إلى الاقتناع أو الإنكار .. فهذه الآلية من أعمال العقل .. أما القلب فيكون أساس إيمانه شعور فطري تلقائي بتقبل الأمر أو رفضه .
القلب في مواجهة العقل :
يبدو أن هناك الكثير من المجالات التي يختصم فيها القلب والعقل , وتلك قضية أخذت نصيبها من البحث والتحليل على يد أغلب المشتغلين بالفلسفة وخصوصاً في مبحث الميتافيزيقا . وبين القائلين بإمكانية التوفيق بين القلب والعقل والقائلين بضرورة الفصل بينهما نتمكن من استخلاص حقيقة هامة وهي أن القلب والعقل – في أحيان كثيرة – لا يتفقان على ذات الأمر .
لننتقل الآن إلى موضوع البحث ...
هل يمكن للعقل قائماً بذاته ( العقل المحض ) بإدراك الغيبيات ...؟؟؟؟
بناءاً على ما أوردناه في البداية يتبين أن الغيبيات هي تلك المواقف والأمور التي لا تخضع مباشرة للحواس الخمس , وهي أيضاً لا تندرج تحت قائمة مبادئ العقل الأساسية ( كقوانين المنطق وقوانين الرياضيات وقوانين الطبيعة ) فالغيبيات لا يمكن إدراكها إدراك مباشر كمعرفتنا الفطرية بأن الكل أكبر من الجزء وأن حاصل جمع 1 + 1 يساوى 2 , بل أن إدراكها لابد له من آداة أخرى , وهي القلب , ذلك لأن القلب تتوافر فيه الشروط التي بها يتسنى له تصديق ما هو غير منطقي , فما للقلب وما للمنطق ..!!!!!
من العسير , بل من المستحيل أن تتوافر الأدلة والبراهين المنطقية والاستدلالية على سفر الرسول إلى القدس وعروجه إلى السماء في ليلة واحدة , وكذلك أن يسير المسيح على الماء , وكذلك أن ينشطر البحر الأحمر إلى نصفين على يد موسى ... فكان لزاماً أن يتنحى العقل تماماً أمام هذه الأمور , ويترك مجالاً للقلب , وبالأحرى , الإحساس لكي يتمكن من تقبل هذه الأحداث .
دور العقل في الإيمان
لما ثبت استحالة تعرف العقل على مالا يخضع للحواس ومبادئ العقل الأولية , فقد ترك مهمة التعرف هذه للقلب , تولى هو مهمة أخرى تالية لها وهي تدعيم ما آمن به القلب قدر المستطاع , فحينما انجذبت الفطرة نحو الإيمان بوجود موجود مفارق وخالق لهذا الكون انتفض العقل ليثبت ويدعم وجود هذا الموجود , فإننا لا نستدل بأفعال الله على وجوده ولكننا نستدل بأفعاله على قدرته وإرادته ووحدانيته ... إلخ إذ لا يمكن إقامة دلائل على وجوده أصلاً ... ولكن يمكن – بالكاد – إقامة دلائل على صفاته .
اجتهد علماء الكلام والفقهاء في إثبات وجود الله والملائكة والجنة والنار والشيطان والنبوة بالعقل بداية , ولكن هذا الأمر تحفه المخاطر من كل حدب , إذ أن من المعروف أن اختلاق الدلائل والبراهين لإثبات شئ ما لا يمنع أن تتأتى القرائح بعدها بإيجاد واختلاق دلائل وبراهين أخرى تدحض ما ثبت من دلائل وبراهين قديمة ... وبهذا نجد أن إعمال العقل في الغيبيات يهدد استقرار الإيمان بالقلوب ولا يدعمه , والدليل يمكن استقاؤه من حقائق العلم – وهي بالطبع من أعمال العقل – فحقائق العلم متقلبة ومتغيرة , وكم من العلماء قامت نظرياته على أنقاض نظريات أخرى تربعت عبر القرون على عرش العلم , وتثبت النظريات الجديدة خطأ النظريات القديمة , بالحجة والتجربة , فهل يمكننا أن نتعامل مع ثوابت الإيمان بمثل هذا المنطق ... !!!!
______________________________
بقي أن نوضح أمراً أخاطب فيه القلوب لا العقول :
إذا كنت منفعلاً بذلك الوجود الحي للإله في قلبك فأنت بذلك مؤمناً بوجود الله .
إذا كنت تميل إلى تصديق نبوة محمد بقلبك فأنت بذلك مؤمناً بنبوته .
إذا كنت تستشعر وجود ذلك الخير وذلك الشر فأنت بذلك مؤمناً بالملاك والشيطان .
إذا كنت تعتقد في جدوى الحياة فأنت بذلك مؤمناً بالجنة والنار .
أما إذا كنت تصر على أن تدرك وتقتنع وتفهم وتعقل فتيقن من فشلك قبل محاولتك الإثبات .
أمرنا الله بأن نشهد بوحدانيته وبنبوة رسوله , ولم يأمرنا بالاستدلال على الوحدانية وإثبات النبوة
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .... وكفى
_____________
رجاء مراجعة " إحياء علوم الدين " للغزالي
الباب السابع من الكتاب الأول ( كتاب العلم ) : في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه جــ 1 صــ 90
الفصل الثالث من الكتاب الثاني ( كتاب قواعد العقائد ) : في الإيمان جــ 1 صــ 118
كتاب ( شرح عجائب القلب ) جــ 2 صــ 414
الكتاب التاسع من ربع المنجيات ( كتاب التفكر ) جــ 4 صــ 351
أحمد عبد الحي شلبي
الأحد
18 / 2 / 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق