قبل أن يغادر ناظر المدرسة فنائها تأكد بنفسه من سير الخطة المرسومة بشكل سليم , وراجع عليها عشرات المرات , فغداً باكر زيارة السيد الوزير للتأكد بنفسه من سلامة وجودة التجهيزات للوباء الفتاك أنفلونزا الخنازير .
ركب الناظر سيارته وقد انزاح عن كاهله القلق كله , نعم , كل القلق , حتى قبل الزيارة , فقد تم رسم اللوحة بنجاح منقطع المثيل , وتم تحديد السيناريو الذي ستسير عليه الزيارة قبل أن تبدأ , وكل القلق يكمن في عملية الرسم هذى , أما الزيارة نفسها فلا خوف منها ولا قلق , مادام الوزير سيسير وفق خطة محددة ومنمقة سلفاً ... !!! , إن القلق الطبيعي في هذه المواقف يبدأ بعد انتهاء الزيارة , حيث تنتهي عملية التقييم التي يقوم بها الوزير الهمام بعد إطلاعه العام والشامل على مجريات الأمور كما هي , وأكرر , كما هي , ولكن في حالتنا هذه يكون التقييم قد صدر بالفعل قبل الزيارة أساساً , انطلاقاً من مبدأ علم المنطق الشهير : " من المقدمات تستخلص النتائج " , فكيف يكون التقييم في غير صالح المدرسة وناظرها والعمل قائم على قدمٍ وساق منذ أسبوع على الأقل , مع العلم أن الزيارة هي في الأصل مفاجأة ... !!!! كيف يأتي التقييم سلبياً والمدرسة كلها مدرسين وسعاة وطلاباً ومديرين يعملون بلا كلل من أجل " إخفاء " وليس " محو " كل ما يمكن أن يشين إلى سمعة المدرسة وناظرها .. ؟!!! كيف يأتي التقييم سيئاً وقد رسمت تلك العلامات التي ستطأ عليها أقدام الوزير الهمام المباركة ... ؟!!!
المهم ... حل الصباح , وجاء الوزير المبجل , والسيد الناظر تكسو وجهه ابتسامة عريضة تنير الفناء أمامه , ليس تملقاً لا سمح الله , وإنما لاطمئنانه النهائي على حالة المدرسة " المزيفة " قبيل مجئ السيد الدكتور الوزير النائب رجل الأعمال بخمس دقائق , وبدأت التمثيلية , أقصد الجولة , وكأنها بلغة السينما " بلاي باك " لكل ما صُمم و وخُطط سلفاً , وسارت الأحداث كما تنبأ بها الناظر , لا زاد عليها حدث ولا نقص منها موقف .
ويسير السيد الوزير , وحوله الحاشية , تلك الوجه التي بليت من كثرة ما نُظر إليها , السيد المحافظ والسيد الناظر ومديرين المدرسة وحشد كبير من القيادات الشعبية والمحلية , يسيرون جميعاً وفق سيناريو عالِ الجودة ويصدحون جميعاً في سيمفونية جليلة الصدى .
ولكن ....
ماذا لو قام أحدهم بعزف منفرد وتمكن من القيام بصولو خاص به ... ؟؟
أقول ماذا لو حاول أياً من هؤلاء الخروج عن الركب وقام بحركة خاطفة ومفاجئة ودخل إحدى الغرف التي أغلقت أمام الزوار بحجة أنها لا تزال تحت التحسينات , ووجد في تلك الغرفة مخزناً للكراسي مثلاً أو مرتعاً لمخلفات الطلبة والمدرسين على السواء .... ؟؟؟؟ ماذا لو قرر السيد الوزير أن يعرج بكامل إرادته عن القافلة ليلج إحدى الغرف " الكواليسية " المارقة عن خشبة المسرح .. ؟؟!!! , فمنذ بدأ الزيارة وهو كالطفل , يمسك الناظر بيده والمحافظ بيده الأخرى , فيريانه ما يريدان أن يرياه , ويسمعانه ما يريدان أن يسمعاه , ويدخلانه الأماكن التي يريدان أن يدخلانه فيها , فماذا لو كسر السيد الوزير هذا القيد و حطم هذه العصمة ودخل بنفسه غرفة لم يرد ذكرها بالخطة , أو مرحاضاً تم غلقه ووضع عليه لافتة ترحيب لإخفاء وجوده أساساً , أو غرفة الموسيقى التي تخلو من كل الآلات الموسيقية ووضع على بابها لافتة ( فصل 5 / 2 ) , ولا يوجد بالمدرسة فصل بهذا الإسم أصلاً , أو يدخل غرفة " المقصف " الحقيقية ليست المنمقة المزيفة , تلك التي تعج بالحشرات والفئران ... ؟؟؟ ماذا لو ترك الفناء الشاسع المزدان بالورود ليعبر من خلالها إلى ذلك الممر الضيق بين سور المدرسة ومبانيها , ذلك الممر الذي تُفعل فيه الأفاعيل , وتمارس فيه الممارسات .. كل الأفاعيل وكل الممارسات . ماذا لو أفلت من قبضتهم وقبض بقبضته على كل مقابض الأبواب وفتحها , ورأى ما وراءها .. ما وراء الأبواب .. ؟؟؟!!!
السؤال : ألا يستطيع .. ؟؟؟
تعودت التماس الأعذار لحكامنا , ويحكمني في حكمي هذا حكمة سمعتها قديماً , وهي – إلى حدٍ ما – صائبة , ومغزاها أنه على الضعيف دوماً أن يهادن ويساير الأمور , على الأقل حتى تنبت أنيابه ويلج في صفوف الأقوياء , وأن يتجنب إغضاب القوي القادر , وقد تفنن أغلب حكامنا في مهادنة الأقوياء , متذرعين بضعفنا وقلة حياتنا , فلا يجب أن نتخذ هذا القرار لأنه سيجلب علينا غضب الدولة العظمى الفلانية , ولا يجب أن ننفذ هذا الأمر لأن الدولة العظمى الفلانية ستصب علينا لعنات العقاب , وللحق , فإن هذه السياسة تفيد في بعض الظروف المتعلقة بالسياسات الخارجية , فكلما اشتط الضعيف بقدرته , وأصر على طلب الحق والعدل والحرية ذهب أدراج الرياح , بوسيلة أو بأخرى , ولنا في ذلك تجارب عشناها بأنفسنا ورأينا الآخرين فيها .
ولكن ...
في أمر كهذا , أمر الشئون الداخلية , هل تصلح تلك السياسة للتطبيق الفعلي , أعني , هل تفيد سياسة مهادنة الأقوياء .. ؟؟؟ لا أعتقد .. حيث أن الأمر برمته متعلق بنا , ولا دخل للدول العظمى الفلانية فيه , هذا مع الإقرار بالارتباط الوثيق بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية واقترانهما أحياناً بعلاقة السبب والمسبب , أقول , هل يمكننا التماس العذر لهذا الوزير الذي يأبى إلا أن ينخدع .. ؟؟؟ الحقيقة , لا مجال للمقارنة , فهو الآن بين حاشيته وأتباعه وموظفيه , وليس بين حكامه ورؤسائه ومديريه , مما يعني أنه من السهل جداً عليه أن يثور ويغير ويبدل ويبادر ويسأل ويلح ويعاقب ويهاجم ويكر بعنف وبكل ما أوتي من جهد وقوة وخبرة , مكانه ومكانته يؤهلانه لأن يضرب ويحاور ويناقش ويفلت ويراوغ ويقيم ويصدر أوامر لا التماسات , ويسن قرارات لا طلبات , يفعل كل هذا بسهولة ويسر وبكل اطمئنان على نفسه ومنصبه , فلا أحد من هؤلاء له عليه سلطة أو أمر أو نهي .. ففي السلم الإداري هم خلفه لا أمامه , فلا يسرى عليه ما يسرى على الحاكم الذي يخاف على أمته أو حكومته أو على نفسه من الأقوياء بالخارج .
أرهقني البحث , ولم أعثر على جواب لسؤال يضرب بجذوره في كبد أمورنا الحياتية الداخلية .. ذلك السؤال البسيط الخانق ... الذي لا يزال مطروحاً ...
ألا يستطيع ... ؟؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق